من سجن الحياة إلى سجن النساء

من سجن الحياة إلى سجن النساء

بقلم :د.طارق البكري 

"سيدي القاضيأنا امرأة مسكينة، ما عرفت يوماً معنى الحرام، ولا اقترفت يداي جرماًً استحق معه كل هذا العذاب..

 كلُّ الأدلّة التي جاءوا بها كذب وافتراء، ليست حقيقية، لا شك أنّهم يتحدثون عن امرأة أخرى، لست أنا هي بالتأكيد...

لا أعرف الأحداث التي يذكرونها، أنا لا أطلب منكم الرحمة، ولا استجدي منكم العطف والرأفة...  فأنا بريئة رغم كل ما قيل عني...

لا أريد الرحمة.. لا أريد البراءة، أريد حقي في الحرية...

ابحثوا عن المرأة التي يتحدثون عنها فأنا لست هي بالتأكيد، كفى كفى"..

كانت تتحدث بقوة..

لم تثنِ كل الأحداث المرعبة من عزيمتها، بل زادتها قوة وعنفواناً وتصميماً.

القاضي رفع الجلسة للمداولة...

"محكمة".

"حكمت المحكمة حضوريّاً على المتهمة حوريّة صبري بالسجن عشر سنوات.. رفعت الجلسة".

 لم تسقط من عينيها دمعة واحدة... قويّة صلبة.. نكبات الدهر علمتها الصبر.

 الحضور كان سعيداً بقرار المحكمة.. كلماتها.. نظراتها.. ثقتها الزائدة بنفسها...  رفضها استدرار عطف الحاضرين...

 لم يترك كل ذلك مجالاً لشعور حتى بالشفقة نحوها...

 حياتها الطويلة وهي تبدأ أولى خطواتها داخل السجن عادت إليها بكل ذكرياتها الحلوة والمرة: " خمسون سنة كاملة مضت.. خمسون سنة في سجن الحياة الواسع فما هي السنون العشر داخل القضبان؟؟".

 لم تكن مبالية لم تطلب استئناف الحكم... السجن بالنسبة لها محطة استراحة ؛ بعد رحلة طويلة من العذاب.. ليس الآن فقط بل منذ الولادة. أمها المسكينة حملتها بعد وفاة زوجها رضيعاً، وانتقلت بها إلى المدينة.. لم يقبل أحد أن تعمل عنده برفقة طفلتها.. ظنوا أنّها هاربة.. أنّها حملت سفاحاً... عرض عليها رجال كثيرون "شهامتهم" التي كانت تخفي طمعاً بلحم هذه المرأة الضعيفة.. 

لم تجد مكاناً تأوي إليه... دافعت عن شرفها بشدّة، الوحوش لم ترحم توسلاتها، لم ترحم بكاء طفلتها الرضيع، لم تستطع احتمال كل القهر الذي أصابها لم تقوَ على اغتصاب كرامتها...

في اليوم الثاني اكتشف المارة طفلةً ملفوفةً بعباءة الأم السوداء، وعلى العباءة آثار دماء، والطفلة تكاد تتجمد من البرد، أمّا الأم فوجدوها بعد أيّام طافيةً قرب شاطئ النهر الذي يخترق المدينة..

 نشأت الطّفلة في يتم... لا أب ولا أم.

كانت تراقب الأطفال الذين يسيرون في الشوارع، يمسكون أيدي أمهاتهم وآبائهم.. كبرت، وكبرت معها آلامها.. تكررت مأساة الأم : " شهامة الرجال" تزداد عند امرأة وحيدة.. الكلّ يقدّم خدماته، الكلّ يريد قيمة واحدة للخدمة...

ورثت عن أمها شيئاً خاصاً..  لم تستسلم لكل المغريات جابهت حتى   الموت.. تعلمت.. كانت تريد إكمال دراستها لكن.. من يعلّمها ؟

وقفت عند المرحلة المتوسطة، بدأت تعمل شغّالة في البيوت.. الميتم لا يتّسع إلا لعدد محدود من الأيتام.. عندما  يكبر الصغار قليلاً يبحثون لهم عن عمل ومكان يقيمون فيه...

زوج السيّدة التي تعمل عندها لم يرحم طفولتها...

مسنّ كريه، رائحة العفن تفوح من فكيه...

اغتصب براءتها.. لم تستوعب ما يحدث لكنها رفضت...

غريزتها أبت ذلك.. أغراها بالمال..  بالعطف..

أظهر لها ابتسامة تخفي مكراً عظيماّ،  لكنها لم تستسلم..

عضته في يده... كادت تنهش لحمه، ذاقت طعم الدم لأول مرة، لم تسمح له أن يسقط نقطة دم من شرفها...

هامت في الشوارع بائسة... خرجت في ثياب بسيطة، لا مال لا طعام لا مأوى..  ادعى أنها كانت تسرق... حاول القبض عليها، لكنّه كبير بالسن،  كانت أقوى منه،  سرقت ماله وهربت...

أخفى الحقيقة... ماذا يمكن أن يقول لزوجته لأبنائه...

صدقته الشرطة...

صدقه القاضي... صدقته زوجته رغم أنّها لم تصدقه.. رجل محترم من أسرة محترمة، موظف كبير، لماذا يكذب؟ هي متشردة لا أب ولا أم.

هي السّارقة ولا فائدة من الكلام الذي تقوله..

مكثت في سجن الأحداث سنوات..

تعرفت على كل صنوف الانحراف.. صمدت.. لم تتأثر.

ورثت عن أمّها نزعة الخير، حاولت الفتيات هناك أن يفسدنها..

كان يسيء أكثرهن هذه المسكينة وإصرارها على التمسك بالشرف... هن يميزن أكثر من الشرطة ومن القاضي؛ يعرفن من منهن الشّريفة العفيفة ومن هي المنحرفة.

صمدت... لم تتأثر.

خرجت ناضجة: جسمها استدار، أنوثتها اكتملت، نقمتها على الناس والمجتمع ازدادت..  لكن من يوظّف عنده مثل هذه الفتاة.. من يفكّر بالزواج من فتاة مثلها؟

فكّرت بالعودة إلى قريتها البعيدة التي لا تعرف غير اسمها: " دير الشمس".

لكن من يستقبلها هناك؟!  لا عم ولا خال ولا أقارب... حتى لو وجدت أقارب لها؛ هل سيصدقها أحد ؟

 لقد صدقتها بنات السجن لخبرتهن.. و لم يصدقها المحقّق...

القاضي حكم بشهادة الرجل المعتدي.. كانت تفكر: كيف استراح ضمير ذلك الرجل؟ كيف قام بذلك دون أن يرحم طفولتها وحياتها وحكم عليها بالموت؟

 ومع ذلك لم تستسلم...

 في كل مكان بحثت فيه عن عمل كانت تُسأل عن ماضيها وهي تقول الحقيقة... لا تحاول إخفاءها.. العروض انهالت عليها من أصحاب العمل و الموظفين الكبار.. لكن: "خارج إطار العمل".

ما يعجبهم فيها ؟

"هيكل عظمي وبقايا امرأة". لكن يبدو أنّ شهوة الرّجال لا تميّز إلا بعد انقضائها.. العروض كانت واضحة جداً، تصريحاً وتلميحاً:

" لنقض وقتا ممتعاً في مكان جميل.. سوف تنالين ما يرضيك".

الجواب الذي كانت تملكه واحد لا يتغير:

" تفووووووووووووووه ".

طلقة رصاص محددة الهدف... تبصق حتى يتطاير البصاق، أصبحت ماهرة في ذلك، بل كانت تحضّر البصقة مسبقاً لمعرفتها و ثقتها بما يحدث..

أما النّساء فلم تكن واحدة منهنّ تقبل تشغيلها... سجلها السّابق يقول إنّها سارقة... أنوثتها الحاليّة..  شبابها.. محلّ اتهام دائم...

من تخاطر بواحدة مثلها في منزلها ؟؟  من المؤكد أنّها قد تفتن زوجها وأولادها..

هي أيضا لم تكن راغبة في الأصل أن تعمل شغالة في المنازل.. تجربتها الأولى رمتها في السجن سنوات طويلة مع أنها بريئة... والسجن "ليس إلا للمجرمين"!!!

 عاشت تتمنى الموت...

قبضت عليها دورية شرطة وهي نائمة تحت جسر... اتهمتها الشرطة بالتشرّد.. ضابط الشرطة همس لها: "تخرجين الآن بشرط".

"تفووووووووووووووووووه"..

بصقت في وجهه...

 ليخفي جريمته سجل لها: إهانة شرطي يزاول عمله...

قضت في السجن بضعة شهور لأنّ القاضي لم يصدقها... صمدت لم تتنازل.. صارت نزيلة دائمة في السجون.. كلما حدثت سرقة أو جريمة استدعتها الشرطة للتحقيق..  ويبدأ التهديد والوعيد وأخيراً الضرب...

باعت على الطرقات كل شيء إلا لحمها..

التقت بشاب متشرّد مثلها..

حتّى هو لم يرحم عذاباتها، ضربته بيدها بكل قوة، وقع على الأرض ثم فرّ هارباً... ظنّته سيقدّر مصائبها.. لكنّه لم يكترث.. كان مثل غيره من الرّجال..

حاويات الطّرقات تعرفها... تبحث في القمامة عن طعام مرمي.. قطع خبز يابس.. علب فارغة.. ملابس قديمة.. أي شيء يمكن تنظيفه وإعادة بيعه بثمن بخس..

مضت أيام وأيام..  شاخت قبل أوانها، لكنها لم تسقط، كانت تذوق الدم ولا تسمح لأحد أن يسرق عفّتها.. صمدت رغم كل شيء.. ابيضّ نصف شعرها، تقلّبت في آلام الحياة ولم تستسلم.. حتى جاء يوم ووقعت مجدداً في قبضة الشرطة.. قيل إنها تلك المرأة التي يبحثون عنها..

أنكرت لكن "حضرة القاضي" لم يصدقها.. ظلّ الماضي يلاحقها... الاعترافات تقول إنّها هي.. وشهد البعض إنّها هي بالفعل..  ضحكات ساخرة كانت تسمع من داخل القاعة؛ ضحكة نسائية ساخرة...

أكثر من شخص ادّعى أنّها تلك التي يبحثون عنها.. كل القرائن كانت ضدها.. لم يكفل لها ماضيها شيئاً من الرحمة..

بعد صدور الحكم؛ رأت المرأة، ذات الضحكة الساخرة، تلوّح لها من بعيد وعلى ثغرها ابتسامة ماكرة.. غادرت المرأة مكانها، اتجهت نحو مخرج القاعة مطمئنة سعيدة بالحكم.