الديناصور (1)
قصة رمزية لا علاقة لها بشخصية محددة
قاسم الكيلاني
وقف أمام المرآة مزهوا بزيه العسكري الذي ازدحمت على كتفيه وصدره عشرات الأوسمة والنياشين من مختلف الأشكال والألوان ، وضع يده على وسام بارز نافرعن غيره له لمعان و بريق أخاذ ، رجع إلى ذاكرته المكدودة من كثرة التفكير بمستقبله السياسي يستنطقها لعلها تخبره عن مناسبة حصوله على هذا الوسام ، حك رأسه مرتين وفي الثالثة امتعض وقطب وجهه غضبا ، تذكر أن هذا الوسام لم يكن بسب انجازاته الفذة ؛ ومشاريعه المبتكرة ؛ وخططه الخمسية والعشرية والخمسينية التي يأمل أن يدركها ؛ وإنما كان قد اشتراه من أحد محلات بيع التحف الفنية من بعض البلاد التي زارها ، أما بقيتها فأغلبها إن لم يكن كلهاحصل عليها مدارة لشره ؛ ومصانعة لمنصبه ؛ وكفا لأذاه ودفعا لبلائه. خشي أن تهلك نفسه حسرة قبل أن ينال وسا ما وطنياحقيقيا يستحقه عن جدارة لمنجز واحد يحقق فيه الأمن ورغد العيش والحرية للجماهير المتعبة أوانتصارامشرفا يعيد للأمة شرفها وهيبتها المجروحة
ولكن هيهات أن تسمح نفسه الشحيحة الكنود الحقود بذالك لأنها مطبوعة على الأنانية والأثرة مجبولة على الشر فلا يعرف الخير إليها سبيلا.نظر إلى الجدار الذي تناثرت عليه شهادات تقديرية من مختلف التخصصات العلمية والفكرية والسياسية ، بل حتى في فن الطبخ وتنسيق الزهور،فهذه شهادة دكتوراه فخرية قي العلوم العسكرية من
كلية (الهزيمة ثلثين المرجلة ) والتي فوقها في العلوم الاقتصادية من جامعة ( غبي قرشك الأسود ليومك
الأغبر ) والتي في الزاوية في العلوم السياسية من أكاديمية ( فرق تسد ) وإلى جانبها شهادة في فن الطبخ من معهد ( كل واشكر ) شهادات ينوء الجدارعن حملها، ويكاد أن يتشقق حنقا وغيظا لما فيها من كذب وتزوير وتلفيق ينافي الحقيقة ويجافي البحث العلمي الملتزم تمنى من أعماق قلبه لوأنه حصل على واحدة منها بقدراته الذاتية ومثابرته الجادة ، ولكنه موقن بأن هذاحلم بعيد المنال ، صعب المرتقى بل هو ضرب من الخيال الجامح وذلك لأنه أعرف بقدراته العاجزة ومواهبه الهابطة . دفع صدره إلى الأمام ووضع كفه على صدغه وضرب الأرض برجله مؤديا التحية العسكرية التي سيؤديها اليوم بمناسبة الاحتفال بيوم الانتصارالعظيم إنه ليس الانتصار على عدو البلاد والعباد الذي قضم أرضها وانتهك أجواءها ، وإنما الانتصارعلى ا لمعارضة الضعيفة المهمشة التي شتت شملها وفرق جمعها ؛ مابين سجين ؛ وطريد ومعلق على أعواد المشانق. رفع يديه ملوحا بها في الهواء وهو يتخيل أنه يحيي مجلس الببغاوات الأشل المقعد الذي لا يعتد برأيه ولا يؤخذ بمشورته والذي هو في حقيقة أمره جوقة من الطبالين والهتافين الذين دميت أكفهم من التصفيق الحادوانشقت حناجرهم من الهتاف الهادر بحياة الزعيم ومنجزاته الخلبية ، والذين كثيرا ماحولوا هزائمه المتكررةإلى انتصارات باهرة ، ومشاريعه الاقتصادية الخاسرة البائرة إلى طفرات من الرخاء والرفاهية ويصورونه للجماهيرالمنهكة المتعبة بأنه القائد الضرورة والزعيم الاستثنائي وبطل العبور والتحرير، هذا المجلس الإمعي المعاق اصطفاه الزعيم بعملية انتخابات مفبركة مزورة .عاد مرة أخرى ملوحا بيديه وقد دوى في أ ذنيه صوت تصفيق هادروعبارات كأنها الرعد القاصف:
( بالروح بالدم نفديك ياقائد ) شعر بنشوة مطربة تسري في جسده المنهك من داء النقرس والسكري وارتفاع ضغط الدم ، اغتال هذه النشوةالعارمة قرع على باب الغرفة كان أحد أولاده يستأذنه في الدخول دخل الولد يحمل عددا من الصحف اليومية ؛ وضعها على الطاولة ثم انصرف .نفخ نفخة نارية حين نظر إلى كومة أوراق مبعثرة على الطاولة كانت أوراق خطبته العصماء التي سيلقيها في يوم الانتصار لملم الأوراق وهو يدمدم بكلمات تشم منها رائحة السآمة والملل : (إنه خطاب طويل ممل لقد كررت قراءته عدة مرات ومازال لساني يعجز عن النطق ببعض كلماته الممجوجة النافرة ، كم مرة طلبت منهم أن يكتبوا خطابا قصيرا واضح العبارة سلس الألفاظ .) ألقى الأوراق على الطاولة بعصبية منكرة وأ قبل على الصحف يطالع أبرز عناوينها أخذ صحيفة ( السعادة ) تبسم ثم ضحك ثم قهقه قهقهة هستيرية ، ثم مالبث أن وضع يده على فمه مخافة أن يسمعه أحد ، لقد تجلت لنفسه حالة من الصدق المؤقت جعلته يضحك بل يقهقه من كلمة ( السعادة ) أي سعادة هذه وهو يعرف أكثر من غيره أن الجماهير المسحوقة المطحونة تعيش في عهده المشؤوم أسوأ حالات البؤس والفاقة والحاجة وأن معظمها يجري جري وحوش البرية ليلا ونهارا فلا يحصل إلا على الكفا ف أو أقل من الكفاف أوقل على مايسد الرمق ويقيم الصلب ، وأنه لاينعم بالغنى واليسا روالترف المفرط إلا المقربون منه والدائرون في فلك حكمه وسطوته ، كان هذا الوضع المزري المشين الذي وصلت إليه الجماهير المنكوبة ضمن سياسته الماكرة الخبيثة لتثبيت أركان حكمه وتوطيد سلطانه ، فسعيها الدائم اللاهث في دهاليز الحياة وشعابها المضنية لتحصيل لقمتها الممزوجة بالهم والذل والخوف ؛ يشغلها عن الولوج في أنفاق السياسة وسرا ديب المعارضة الطامحة با لتبديل والتغيير. لفت نظره في الصحيفة صورة له بزيه العسكري كتب فوقها بالخط العريض :(خطاب هام للسيد القائد يحدد فيه ملامح مرحلة جديدة )؛ قلب الصفحة فاستوقفه مقال لكاتب معروف مرد على الكذب والنفاق والمداهنة بعنوان (زعيمنا هوالقائد الضرورة
والمفكر الملهم )هم أن يمزق الصحيفة ثم تدارك نفسه فألقاهاعلى الأرض لالأن ا لعنوان لم يجد في نفسه الرضا والاستحسان ؛ ولكن لأن الكاتب متملق متزلف ومنافق أفاك ؛ وما كتب ذلك إلا مداهنة ومصانعة له . ندت من فمه عبارات قاذعة : ( ياكذاب والله تعرف أنني أعرف أنك منافق مخادع ) تناول صحيفة أخرى( المستقبل المشرق ) تساءل بتهكم وهو مازال تحت تأثير حالة الصدق المؤقت : (أي مستقبل مشرق ينتظر الوطن في ظل حكمه الموغل في الفساد وفي التضييق على الناس في عيشهم وكبت حرياتهم ، إن الوطن يلج في نفق مظلم من التخلف في السياسة والإقتصاد والحريات والبحث العلمي ليس في آخره بصيص من نور .وجد في الصحيفة الصورة نفسها والعناوين البراقة عينها والألقاب المبهرة ذاتها ؛الضخمة في ظاهرها الحقيرة في حقيقة أمرها، والمقالات المتزلفة التي تدور في الفلك نفسه يكتبها المنافقون أنفسهم .تأفف الزعيم ضجرا وهو يدمدم بكلمات مبهمة أظن أنها كانت بيتين لشاعر أندلسي في ظل ملوك الطوائف :
مما يزهدني في أرض أندلـس ألقــاب معتضــد فيهــا ومعتــمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
أفاق من حالته المؤقتةعلى استئذان ولده مرة أخرى وفي يده كتاب مدرسي :(بابا قبل ماروح للمدرسة ممكن أسألك بعض الأسئلة اللي مابعرف إجابتها في النشاط ؟.) أجابه بغضب : الآن وقت أسئلتك مش شايف إني مشغول ، إسأل بسرعة .
الولد :كيف تحدث ظاهرة الكسوف ؟ ) سكت القائد هنيهة ثم قال بعصبية: ( وأنا إيش عرفني ) الولد يدمدم بغضب مكتوم :(متى يحدث المد والجزر؟ )
حك الزعيم رأسه ثم أجابه متهربا :( ياولد ماني فاضي لأسئلتك روح إسأل أمك .
خرج الولد من الغرفة وهو يتمتم بصوت خافت : ( مايعرف حاجه ، ماأدري على إيش معلق هل النياشين والأوسمة ؟ ) سمعته أمه وهو خارج من الغرفة فوضعت يدها على فمه مخافة أن يسمعه القائد الملهم.