على باب البريد

نادر أبو تامر

[email protected]

حدث الأمر قبل عدة أيام، وهو يحصل يوميًا .

باب البريد يغلق في الثانية عشرة والنصف في اليوم المحدد. ولكني وصلت إلى البريد بعد الساعة الثانية عشرة والنصف بقليل.

حملت الموظفة مفاتيح باب الدخول لتقفله من الداخل، ولم تكن تفتح الباب إلا لكل من ينهي عمله من الموظفين، وذلك  حتى يغادر. ولم تتوقع  الموظفة ما ينتظرها.

فتحت الباب لتسمح بخروج البعض من الفرع ، فما كان من المنتظرين إلا الهجوم على الفرصة الأولى المتاحة لهم.

حشر رجل متقدم قرعته التي كانت حمراء تلمع من شدة الحر، وكأنه سلط عليها السشوار الساخن ناسيا بأن شعراته القلائل قد غادرت مقرها إلى غير رجعة، ولم يعد يسمح لها بالدخول أو بالخروج.

-  أرجوك يا أخت، فأنا مضطر للدخول إلى البريد،  وإلا لن تسنح لي فرصة أخرى.

ما السبب ؟ سألته

كان يحك قرعته التي اشتدت حمرتها أكثر وهو يدفع بنفسه على الباب، ولو ظل على  إصراره قليلا فسوف يدخل ، كان يرجوها ويرجوها، ولكنه لم يجدها متأثرة بكلامه أو برجائه، فراح يتنهد، ويقول إن ابن عمه المتوفي غادر الدنيا مبكرًا، وفي ريعان الشباب حتى قبل أن يزوج ابنه الأول، ولا بد من إنهاء المعاملة.

احتارت الموظفة، وسمحت له بالدخول ليشارك - كما ظنت-  في الجنازة المبكية.

وما كادت تغلق الباب حتى اندفع شاب في أوائل العشرين يلبس بلوزة بكمين قصيرين للغاية، فوضع يده على الباب، وشده برفق، وربما ليبين للفتاة قدراته العضلية المفتولة. الفتاة التي لم تلاحظ رجولته المتفجرة من كميات الـ اكس ال التي يبلعها. شدت الباب لتغلقه، فوضع قدمه أمام الباب،  وقال لها بغنج خفيف: طلب مني أبي  أن أحول مبلغا من المال لأخي في الخارج، فهو يدرس في رومانيا، ولم تعد معه نقود، وقد يفشل في دراسته في حال عدم تلقيه الأموال.

تراجعت الموظفة قليلا إلى الخلف، وسمحت له بالمرور.  نظر إلى الشباب خلفه، ورمقهم نظرة معناها:

 "زبطت" يا شباب. وشق طريقه بثقة إلى شباك الموظفين، ليس قبل أن يفحص تصفيفة شعره المشدودة بطبقات من الجل كفيلة بحمايته من الإصابات- حتى ولو وقع عن ظهر التراكتورون، وقبل التأكد من أن الجهازين الخلويين  في جيبه ظاهران بصورة كافية.

لم تكن بيننا نساء أو فتيات في الخارج. يبدو أن الفتاة لا تقف خارج باب مغلق في حال انتهاء وقت الاستقبال، أو الدوام.

الرجل الثالث راح يشتم البلدية التي لم تشق الطريق أمام بيته، بحيث تأخر عن موعد البريد. هو الآخر أقنعها ودخل رغم تأخره.

الرابع اشتكى الدولة والضرائب التي تفرضها على الشعب المسكين.

الخامس استغرب من أن الساعة متأخرة.

كنت أتأمل كل حكاية بدهشة. ......لم يبقَ سبب إلا وسمعته حتى جاء دوري.

لكنني لم أكن قد وجدت سببًا مقنعا، فالشاب الثامن سرق مني السبب. خططت أن أقول إنني مدعو لعرس ابن جيراننا ، وقد لا ألحق الزفة، لكنه قال نفس الكلمات التي نويت قولها لها لأقنعها بكلامي.

وكنت قد استغربت.

 في بريد حيفا، كنت في الأسبوع الماضي، وكنت تمامًا في الساعة الثانية عشرة والنصف تمامًا، وقد تأخرت هذه المرة بسبب المواصلات.

 أغلقوا الباب تماما في الموعد المحدد، ولم يستطع أحد أن يقنع الفتاة الروسية التي تعمل حارسة هناك.

أما نحن فالحجج  لدينا كثيرة مقنعة أو غير مقنعة . ويبدو أننا أكثر انضباطًا منهم بالنظام .

وفجأة وجدتها تسأل: أنت بالطبع تريد استلام طرد البريد... وصل أمس من مدينة القدس.

كان الأمر غائبًا عن بالي، ولم يكن لدي أي سبب مقنع للدخول إلى البريد .

قلت لها: الصحيح أنني تأخرت، أما موضوع الطرد فلم يخطر ببالي، لكنني وقفت أتأمل الأسباب التي يخترعها  البشر لتبرير تأخرهم عن موعد إغلاق البريد.

فتحت الباب ، ودعتني للدخول وهي تقول لي: الأسباب التي سمعتها قبل قليل، هي نفس الأسباب التي سمعتها أمس وأمس الأول والأسبوع الماضي.

 ثم اختفت وراء الطاولة، وغرقت في تصنيف كومة من الرسائل التي أفرغتها سيارة البريد للتو.

عندما وصل دوري، دفعت ورقة الكهرباء، وطلبت الطرد البريدي من القدس.

 بحثت عنه زميلتها، لكنها لم تجده.

بعد يومين اتصلوا بي من القدس، وقالوا إن الطرد البريدي سوف يصل خلال أيام.

استغربت كيف عرفت الموظفة أنني أنتظر طردًا من القدس.

آه عرفت السر:  ربما تكون هذه هي  الحجة التالية التي تسمعها يوميا من المتأخرين عن موعد البريد.