المتسولة
المتسولة
بقلم :د.طارق البكري
جلست على التراب في ظل حائط أمام مدخل المسجد، تستر وجهها بقطعة قماش باهتة متآكلة الأطراف، تضم إلى صدرها طفلة صغيرة شاحبة، بدا من عينيها أنها لم تنم ولم تأكل منذ أيام.
حضرت مبكرة.. فوقت الصلاة الجمعة لم يحن بعد.. هنالك أكثر من ساعتين.. ولولا بعض العابرين من آن إلى آخر لقفر الشارع إلا منهما.
البنت الصغيرة ملّت المكوث في حضن أمها... اللعب في باحة المسجد أمر مغر، قفزت تهرول، لم تمانع الأم، تركتها تلهو ببراءة حتى عثرت في أحد جوانب الباحة على نخلة دانية القطوف، حملت بعض ثمارها وركضت نحو أمها لتشاركها وجبتها الشهية..
نظرت الأم بإشفاق: "مسكينة أنت.. ما ذنبك لتتحملي معي الألم الفقر؟ لقد يتّمت باكراً جداً، حتى إنّك لم تعرفي معنى الأبوّة" ..
تذكرت كيف كانت تعيش عيشة رغيدة بصحبة زوجها.. لقد كانت سعيدة جداً قبل أن يأتي الأشرار ويطردونها من بيتها وأرضها.. حاول زوجها أن يمنعهم.. لم يكلّفهم إلاّ رصاصة واحدة.. سقط إثرها مضرجاً بالدماء ..
خرجت الأم هائمة على وجهها، تجرّ ابنتها جراً، وانقطع أي اتصال بينها وبين أخوتها، كانت متأكدة من موت أبيها وأمها على يد الأشرار هؤلاء... حملها باص صغير... نقلها وابنتها إلى أرض بعيدة.. كرهت نفسها.. كرهت الناس والحياة، تمنت لو ظلّت هناك جثة هامدة إلى جانب تربة زوجها، لأنّ ذلك أفضل مما هي فيه ألف مرة.
بالأمس كانت تعيش ملكة في مملكتها واليوم تمد يدها إلى الناس.. يا سبحان الله كيف انقلب بها الحال؟ هجرت أملاكها ووجدت نفسها في مكان بعيد داخل مزرعة.. لم تكن تقوى على السير... حملها رجل.. ادخلها بيته، وبعد أن استعادت وعيها حاول نهش لحمها المشوي تحت الشمس بلا رأفة ولا رحمة.. ضربته بخشبة امتدت إليها يدها الواهنة.. ضربته في عينه فانقلب على ظهره من الألم، حملت ابنتها وفرت بمصيبتها؛ لقد كان جار أسرتها...
جف حليبها ولم تيأس.. بحثت في القمامة عن بقايا الطعام.. أصبح وجهها كومة عظام يحمل عينين ناتئتين بعدما كانت تتدفق بالحياة..
اقترب موعد الصلاة ولم يأت أحد بعد.. عزت نفسها بثمار النخلة.. اقتربت من باب المسجد فشاهدت ورقة معلقة في ركن جانب المسجد: "مغلق للترميم"، ضحكت كما لو لم تضحك من قبل.. "حتى المسجد أغلق لما جئت إليه؟".. قامت تسير ببطء شديد.. مرّت سيّارة مسرعة.. خافت الطفلة من صوتها المرعب.. أوقف السائق سيارته فأحدثت الإطارات زعيقاً متواصلاً فوق الأسفلت.. تلفت هنا وهناك ثم عاد بهدوء وقال: "إلى أين يا حلوة ؟"
رمقته الأم بأسى وبصقت في وجهه ثم مضت في طريقها..
أغضبت الأم
الشاب... عاد وتلفت هنا وهناك وعندما تأكّد أن المكان خالٍ
تماماً انقض بسيارته
على المرأة
المسكينة وطفلتها البريئة وتركهما فوق الرصيف يودعان الحياة.