الرسالة
|
الرسالةقصة نعيم الغول |
تفتت أصوات جنازير الدبابات صمت الليل.. ضوضاء شديدة تعبر أفق الحلم.. تشق ملامحه .. تخترقه أربع مرات متتالية. من الجهات الأربع تطوقه وتخلفه شظايا. تحفزني فأتقلب ثم أسكن ثم بشيء من الهيبة أنظر إليه .. بكثير من الدهشة أتابعه وهو يقترب مني. |
لم تخني الذاكرة.. فقد كان هو تحيط به هالته البيضاء ذاتها تستعير شمما من رأسه .. تنزل إلى لحيته تتخللها كأثر الوضوء .. تلف جسمه .. يشف فيكشف عن عالم يقعد اللسان فيقعي بين فكين عاجزا عن الوصف.
لم تخني الذاكرة رغم أن مقعد العجلات لم يكن يصاحبه.. في سديم الحلم المجلل بسواد كما بدا لزمن طويل تمزقت المدن تحت طرقات جنود غرباء عن هواء المكان يجولون في كل شارع وزقاق كجرذان تبشر بطاعون ظالم يفتك بالبراعم الطرية في أحضان الأمهات.
كان يمشي .. يقترب .. يقترب.. يقترب.
أصوات طائرات مروحية تحوم منذ الصباح كمجموعة من الغربان تنتظر صيدا بحجم خريطة وطن محتل.
ما يزال يمشي ويقترب .. لا يلتفت لصوت .. لا يبدو مباليا. فقد بدا معتادا على ذلك منذ لاحقته بندقية "الهاجانا" وهو طفل ودفعته والكثير من أهل قريته إلى ذلك المخيم. وانتظرته أن يكون رقما على بطاقة زرقاء تخوله أن يمد يده لكيس طحين ،كيس حليب ،علبة السردين والبلوبيف، صفيحة زيت. ويحلم ببساط ريح يعيده عليه قادة زرعوا أكتافهم بالنياشين، وألسنتهم بالوعود بان يجعلوا المخيم صورة تسخر منها الذاكرة حين تعود ليالي السمر في عسقلان.
من بقايا روحي يخرج صوتي مثخنا يسأل عينين تبرقان بالتحدي: " علمني كيف استطعت ؟ وكيف لا أستطيع ؟
يقترب .. يقترب . رقم صعب يصير بعد أن خانته النياشين الفارغة حتى من غبار معركة.
يزداد صراخ روحي :" كيف زرع شتلات دون الإمساك بها؟ كيف البذار دون قبض البذور؟ كيف الوصول دون المشي.؟ كيف شددت القلوب بعروة وثقى؟"
الأسئلة تدوي كطلقات مسددة بعزم نحو الهدف . كيف لرجل مشلول يساعده الآخرون في كل شيء أن يقود ويرشد ويبني ويؤسس لهدير الحق في زمن الصمت والجمود؟ كيف استطاع أن يهز الاحتلال بأيدي له وليست له؟
لا يجيب . يتوهج ثغره مقبلا على الابتسام.
أهتف بحيرة:" أنظر إلي؟ عندي ما ليس عندك. يد تتحرك . رجل تمشي. مال لا أدري كيف أنفقه. شهادات لو علقتها على حائط لغطته كله. لكني مكبل."
بعض حلقي يقبض على بعض.. عيناي تروغان من الأشياء .. حاجباي يتقاربان مقطبين.
انتظر أن ينطق .. أعرفه لا يبخل بنصيحة .. منابر المساجد في غزة تشهد أن لسانه كان أمضى من ضربات السياط على أجساد المقاومين .. تلسع اكثر من فعل سيجارة تشوي لحم مناضل تهز القلوب اشد من هز الأعناق في مكاتب التحقيق .. فلم الصمت الآن؟
يطيل الصمت . تتسع دقتا عيني لمرآه يرتفع فجأة عن الأرض ويحلق من فوقي وينتشر في سماء الغرفة وابتسامته تتسع وتتسع والضوضاء تشتد .. تعبر أفق حلمي وتشق روعة الابتسامة.
ألم في جسدي يثور فجأة . أنتفضُ .. أصحو فأجد أخي يضربني بقبضة يده ومن بين دموعه يقول :" استشهد الشيخ!"
دقائق طارت بنا إلى حيث صور الدم الذي يفترش الأرض .. يلتصق بها بحنان منح الجدران بعضا منه. حتى الهواء لونَّه وحمَّله رائحته. قِطع اللحم تناثرت وقد بدت مطمئنة تقول :" قريبا سأجمع وأعود نشأتي الأولى".
استنشقه المكان واحتضنه وزرعه في حدقتيه أملا يفرخ آمالا.
تختلط الأصوات من حولي :" َضحّى " .. " عاش فقيرا" .. " قلبه عرف الله فقط" .. " أحب الناس".. " سحق الخوف".."سبيله كانت البندقية ".. يغادر كل شيء ذاكرتي.. تغيب الدموع والشهقات والقبضات الغاضبة الملوحة.. ويظل وهج ابتسامته عالقا ليسأل منتظرا بثقة إجابتي.
- :" هل وصلت الرسالة؟"