شُجُون !..
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
صَعَدَ متسلّقاً الهضبةَ متكاسلاً، حاملاً على ظهره كل هموم الدنيا، ثم وقف في أعلى قمّة التلّة المُطِلّة من جهة الشرق على المدينة، التي هرب من ضوضائها واختناقاتها المرورية، مخلّفاً وراءه كل مشكلاتها ومنغّصاتها، وحواراته العقيمة مع زملائه في الجامعة الذين ابتلعت همومهم الصغيرة كثيراً من طموحاتهم، التي سعوا سعياً جاداً لتحقيقها وتغيير الأحوال إلى الأفضل في وطنهم الذي يحبونه!.. فمن مشكلة المواصلات التي تستغرق الساعات الطويلة من أعمارهم اليومية.. إلى مشكلة تأمين الكتب الجامعية.. إلى مشكلة تأمين السكن ولقمة العيش الكريمة.. إلى عددٍ لا يُحصى من المشكلات الشخصية والنفسية الناجمة عن المشكلات الأساسية!..
وليتجنّب رؤية المدينة التي تُذَكّره بكل المنغّصات .. استدار (سعيد) إلى جهة الغرب، حيث مئات أشجار الزيتون المصطفّة بتناسقٍ بَديع، على مساحة الأرض المزروعة الممتدّة إلى خط الأفق، ثم نظرَ إلى الأفق البعيد الذي تلتقي عنده السماء والأرض بصفٍّ من شجيرات الزيتون الخضراء المباركة .. محدِّثاً نفسَه :
- لا فائدة .. لا فائدة!.. فنحن نحتاج إلى معجزةٍ أو إلى رجلٍ خارقٍ لإنقاذ هذا البلد وهذه الأمة، فقد جرّبنا كل طريقةٍ .. ولا نتائج!..
أطرقَ بُرهةً فانطلق من ثنايا نفسه هاتف قويّ :
- (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)!..
أحسّ أنّ كيانه يهتزّ، فعاد إلى نفسه محدّثاً، بعد أن جلسَ على بقيةٍ من جذعٍ مقطوعٍ لشجرة (كِينا) مُعَمّرة، واضعاً كفّيه على ركبتيه، ناظراً إلى مكان التقاء السماء بالأرض، حيث بدأت الغيوم تتجمّع أمام ناظريه :
- لكن من أين لنا أن ننطلق مرةً ثانيةً ونحن من القلّة، إلى الدرجة التي تجمعنا غرفةٌ واحدة كدار الأرقم بن أبي الأرقم، ونخاف من رجلٍ كعمر بن الخطاب!.. لا فائدة، فقد ضاع جهد السنين الطويلة بلمح البصر، من غير نتائج تُذكَر، أو تقدّمٍ حقيقيٍ ملموس!..
هتفَ الهاتف من بين ضلوعه بقوّة :
- (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)!..
لكنّ نفسه عادت لتحدّثه بكيد :
- انظر إلى حالِك، وانظر مِن حولِك : أين الأهل والعِيال؟!.. وأين الأموال ولا تكاد -جنابك-تحصل على قوتِ يومك؟!.. وأنت -على قلّة مالِك- تنفقه في طريقٍ خاسرة، وتوهِم نفسكَ منذ أكثر من عشر سنوات، بأنه لا بدّ من التضحية والصبر، وأنّ الوصول إلى الهدف لا ريب آتٍ مهما طالَ الزمن!.. أَقَليلة هذه السنوات العشر التي فقدتها من عمرك من غير أدنى فائدة؟!.. اصْحُ إلى نفسك يا رجل .. وعُد إلى رُشْدِكَ وصوابِك، وكفى تضييع سنوات العمر، فأنت ما تزال في ريعان الشباب!..
انتصب واقفاً منتفِضاً فجأةً :
- تَعِسَ عبدُ الدرهم .. تَعِسَ عبدُ الدينار!.. لكنني فعلاً فقدتُ أعز أحبابي وأهلي وأقاربي وأصحابي!.. جلسَ بهدوءٍ مرةً أخرى على الجذع المقطوع، وكأنه تذكّر أمراً، ثم ردّد بصوتٍ خافت :
- (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)!.. رفع صوته قائلاً :
- نعم .. وما بدّلوا تبديلاً .. وما بدّلوا تبديلاً!..
عادت إليه نفسه الانهزامية من جديد، لتسأله جملةً من الأسئلة مشكِّكةً :
- أنتم؟!.. أنتم الذين لا تأمَنون على أنفسكم، وتتقاذفكم الأنواء والظروف التعيسة .. أَأَنتم ستصلون إلى أهدافكم الوردية؟!.. ما لكم كيف تحكمون؟!.. ألا ترون قوّة عدوّكم؟!.. ألا تنظرون إلى هذه القوى العالمية التي لا تُقهَر، تسانده وتدعمه وتمدّه بأسباب البقاء والمنعة والجبروت؟!..
انتفض مرةً أخرى مقاطعاً نفسه الأمّارة بالسوء :
- لكنّ مكرَ الله سيهزم مَكْرَهم!..
هَمَسَت نفسه الانهزامية :
- نعم وماذا بعدُ .. يا هذا الذي لا يدري مصلحته؟!..
- إنّ الله عز وجل لا يُخلِف وعده للمؤمنين الصادقين، وهو سينتقم من الأعداء المجرمين، لا أشك في ذلك مطلقاً!..
أجابت نفسه الانهزامية بمكرٍ ساخرةً مُقاطِعة :
- ههه .. ههه!.. لكنّ العالَم كله ضدكم!.. وهنا يا صاحبي بيت القصيد، فبإمكانكم أن تتداركوا ما فاتكم!..
- ماذا تعنين؟!..
- لا بد من التنازلات!.. نعم التنازلات!.. فالعالَم قد تغيّر من حولكم، وتغيّر العصر والزمن، ومَن لا يحسب لا يسلم!..
اصطكّت أسنانه غيظاً .. نهض ليتمشّى قليلاً، ثم عاد فوضع قدمه اليمنى على الجذع المقطوع.. لكنه ابتسم للهاتف المنطلق من أعماقه :
- المؤمن لا يخاف إلا اللهَ عز وجل، وشعاره في كل الظروف هو : حسبُنا الله ونعمَ الوكيل!..
عادت إليه النفس الأمّارة بالسوء شامتةً :
- ما أغباكَ يا هذا!.. ألا ترى أنّ الله خذلَكُم؟!.. فقد التمستم منه الفوز والنصر فلم يُلَبِّ مطلبكم!.. التجأتم إليه فأعرضَ عنكم!.. ماذا تطلبون إذن بعد هذا الخذلان؟!..
استدار إلى الوراء، وقد بدأت قطرات الخير تهطل، فَتُداعب وجهَهُ الحانق .. مسح جبينه المبلّل بكفّه الأيمن ثم قال :
- امتحان ربّانيٌ ليس إلا، واختبار إلهي لعباده المؤمنين!..
ثم مسح خدّيه بكفّه الأيسر وتمتم :
- (.. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ..)!..
لم يَدْرِ كيف قفزت إلى ذهنه صُوَرُ الماضي القريب الأليمة الحزينة، فاستعرضها في مخيّلته واحدةً تلوَ الأخرى، ثم خاطبَ نفسَه :
- آهِ يا سعيد!.. أين كنتَ وأين أصبحت!.. فها أنت ذا وحيداً، بعد أن فقدتَ مَن فقدت من أحبابك، وكذلك فقدتَ مَن فقدت من أصحابك الذين اختلفتَ معهم على الطريقة والأسلوب!..
انظر يا (سعيد) إلى أهلنا وأبنائنا في فلسطين، فاليهود الصهاينة لم يتركوا وسيلةً إلا استخدموها لكسر ذراع المقاومة والشعب المسلم هناك!.. وانظر إلى أهلنا وأبنائنا في العراق، كيف يتفنّن الأميركيون المجرمون في إذلالهم وانتهاك حُرُماتهم ونهب ثرواتهم وتدمير كل ما يمكن تدميره من بلادهم!.. وكذلك انظر إلى أفغانستان، ذلك البلد المسلم، كيف تتداعى عليه كل الحثالات من الأمم الصليبية الغربية، لإجبار شعبه على ترك دِينه وعلى انسلاخه عن أمّته الإسلامية!..
عدوّنا يا (سعيد) لن يرضى بأقل من إبادتنا، وبناء قصور مجده وعِزّه ورخائه على جماجمنا وأطلال بلادنا، التي يعيث فيها غيّاً وفساداً!..
استلقى على الأرض الجبلية الصخرية، ثم قال لنفسه :
- وهل أنا أعزّ أو أفضل من هؤلاء الذين قضوا أو غابوا كلهم : إما ضحية العدوان والظلم، أو تضحيةً في سبيل الله والأمة والوطن؟!.. لا .. لست أفضل منهم!.. لعنة الله على الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من وساوس النفس الأمّارة بالسوء!..
جلس ووضع ساقيه المطويّين أمامه، وشبّك أصابع يديه أمام ركبتيه، ثم نظر إلى الأفق البعيد .. باتجاه الغرب، متأملاً آخر خيوط الشمس الآخذة في الانغراس وراء الأفق، مخلّفةً أول خيوط الظلام!..
نهض بعد اشتداد انهمار المطر قائلاً بصوتٍ مسموع :
- يمتحن الله الإنسان بالمِحَنِ والمصائب، ليختبر صبره وثباته ومدى تمسّكه بالطريق التي اختارها!..
رفع ياقةَ معطفه من خلف رقبته، وشدّها بعصبيةٍ ثم سحبها إلى الأمام قليلاً، لِيَقِيَ مؤخّرةَ رأسِه من غزارة قطرات المطر، وهرول نازلاً من أعلى التلّة، مُطْرِقاً وواضعاً كَفَّيه على رأسه، وهو يعنّف نفسه :
- لا بد من العودة .. نعم العودة إلى العمل والدعوة والجهاد، ولا بد من الصبر .. لأنّ نتيجة الصبر هي الاستمرار .. ونتيجة الاستمرار والعمل الدؤوب المخطَّط هي الفوز والنصر والوصول إلى الأهداف!.. فقد خسرتُ الدنيا، فهل أخسر بعد ذلك الآخرة؟!..
- لا .. لا .. الدنيا ملعونة، أما الآخرة .. فلا!.. لا يأس بعد اليوم، ولا إحباط، فقد تعجّلنا النتائج، ولم نقم باتخاذ كل الأسباب، والله يختبرنا، ويصقل نفوسنا، ويعمّق تجربتنا!..
ابتسم لإشراقة نفسه وسط الظلام المحيط الذي تغلغل في كل أنحاء المكان، ورفع كفّيه إلى السماء، ناظراً إلى الأعلى، متلقياً بوجهه خير الله المنهمر، مردّداً بقوّةٍ ويقينٍ وثباتٍ وخشوع :
- (.. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)!..
عند أسفل التلّة، وقف على جانب الشارع الرئيسيّ، فتّشَ جيوب معطفه الداخلية، عدّ النقود التي بحوزته وهز رأسه راضياً، ثم أشار بيده إلى سيارة أجرة، وصعد إلى المقعد الذي بجانب السائق، ثم قال له وهو يمسح جبينه المبلّل بمنديلٍ أبيض :
- إلى دار الأرقم لو سمحت!..
نظر إليه السائق مرتاباً، ضاغطاً بِقَدَمِهِ على الفرامل، ثم ابتسم وقال :
- دار الأرقم؟!.. أين تقع هذه؟!.. لم أسمع بها أبداً!..
- هل قلتُ لك : إلى دار الأرقم؟!.. عفواً .. لا مؤاخذة، أردتُ أن أقول : إلى مسجد عمر بن الخطاب .. لو سمحت!..
اعتدل السائق في جلسته وراء المقوَد، وأقلع بسرعةٍ كبيرةٍ قائلاً :
- معك حق يا أستاذ، فالأحوال أصبحت لا تُطاق، وبإمكانها أن تذهب بأثخن العقول .. لا حَوْل ولا قوّة إلا بالله!..
خطف (سعيد) نظرةً ماكرةً إلى وجه السائق قائلاً :
- اللهم ثبّت علينا العقلَ والدِين!..