الوصول إلى الحقيقة
عزيز العرباوي
كاتب وشاعر من المغرب
نظر
مليا من حوله فوجد نفسه غريبا بين مئات الرؤوس البشرية يتصرف بالمثل على غير
عادة الناس ... ماسحي أحذية يطلون وجوه زبنائهم بمسحوق أسود . نادل يسكب الطلبات
على
رؤوس زبائن المقهى . أطفال مستلقون
على
حافة الطروطوار . توقف قليلا
.
مرت
بخاطره أفكار شتى كانت تنثال عليه كندف الثلج باردة قاسية . حاول أن يفهم ما
يجري . أهو في كابوس يستولي عليه في عز النهار ؟ زادت أشعة الشمس المحرقة في حيرته
ولم
ينبس ببنت شفة . رغم وجود الحافز الذي يحمل كل ذي عقل على استفسار ما يقع لغيره
إذا
كان يظن أنه يتصرف تصرفات الحمقى
...
على
بعد أمتار منه ، شاهد حشدا من
الناس متجمهرين على شكل حلقة ، كأنه يعيد أيام جامع الفنا مرة ثانية ، يوم زارها في
ريعان شبابه . اقترب فليلا ، قليلا حتى وصل إلى ذاك الحشد . انسل بين المتجمهرين
حتى
أخذ له مكانا يسمح له بمشاهدة ما يجري داخل الحلقة . كل الناس صامتون على غير
ما
كان يرى في الحلقات التي كانت تقام في الأسواق الأسبوعية في بلدته . الصمت
والسكون كانا سيدا الموقف هناك . لم يكن هناك أي ممثل أو
"حلايقي"
يفرج على الحاضرين . كان وسط الحلقة خاليا والكل صامت . زاد هذا
المشهد من حيرته . أحس بحزن شديد يستولي عليه ، ثم ببردات خوف تغمر قلبه وبدأ يهتز
في
مكانه . لم يسبق له أن عاش هكذا تجربة لذا استولى الخوف عليه سريعا لما تيقن أنه
وحيد بين مئات الحمقى المجانين ، وهو الذي اعتاد هذا النوع من البشر قليلا جدا ،
وغالبا ما يزج بهم داخل مستشفيات خاصة بهم . فإذا به ينقلب السحر على الساحر . هذا
ما
رآه بعينيه وأحسه بقلبه
.
كانت عيون أولئك المتجمهرين مسمرة على الفراغ
والوهم . هدفها وسط الحلقة الفارغ . غادر بوشعيب الحلقة بحذر شديد وكأنه يفر من
الوغى . مانحا رجليه كل الحرية في مزاولة الهروب البطيء دون أن يأخذ أحد باله منه
.
على
بعد أمتار منه تجمع للطاكسيات - سيارات الأجرة الصغيرة - فكر مليا إلى أين يذهب
له
في الوصول إلى حل مقنع . مشى قليلا بطيئا . انزوى إلى ركن أحد البنايات العمومية
.
رجال الأمن في هذه اليام لا يمرون بالشارع بعدما تبين لهم أن كل الناس قد جنوا
وأن
لا خوف منهم لإثارة الفوضى أو الشغب . قرر أن يقصد مقرهم ليستفسر عن هذا التغير
المفاجيء الذي طرأ على الناس جميعا . اقترب من باب المقر . قصد رجل أمن يحمل بين
يديه سلاحا كالذي يباع عند بائعي اللعب أيام عاشوراء . لم يهتم للأمر كثيرا . كان
هندام الشرطي وسحنته وملامحه تدل على أنه إنسان غير طبيعي . اقترب منه أكثر وبادره
بالسؤال :
_
أيمكنني ، يا سيدي ، أن أقابل السيد العميد ؟
.
لم
يجبه
الشرطي . ولم يعمل جهدا حتى ليرى في وجهه . أحس بوشعيب كأن العالم كله قد جن ، وقد
أصابته جمرة خبيثة من الجنون والحمق . صمت . تراجع قليلا . هبط أدراج المبنى
.
التفت يمنة ويسرة . ولما لم يحس بأي عين تراقبه ، أشار بيده لسيارة أجرة كانت تمر
بالشارع . دون أن يحدد المكان الذي سيقصده ، قال في نفسه وهو يركب السيارة
:
والله ، إنه الجنون.
لم
يطلب من سائق الطاكسي أي شيء
،
وهو أيضا لم يسأله عن وجهته . خاف بوشعيب أن يكون ممسوسا بالجنون . صمت . ترك
السيارة تتجه به أينما أرادت ، وأينما فرض الجنون على السائق الذهاب . وبعد قليل ،
وبعد أن قطعت السيارة بعض الكيلومترات والتهمت بعض الشوارع ، توقفت فجأة أمام بناية
ضخمة جديدة ، لم يسبق له أن رآها من قبل . قال في نفسه
:
هل
بنيت من
جديد ؟
هل
أصلحت فقط ، وجهزتها الدولة لتخصصها لإدارة
عمومية ما ؟.
لم
يكذب في الخبر . نزل من السيارة . توجه إلى بابها . لم
يصدق نفسه . فوجيء بالعبارة المكتوبة على البوابة والتي تقول
:
هذا
مستشفى الأصحاء.
الآن
فقط اكتملت كل الحلقة التي ابتدأت بالجنون وانتهت
بالعقل . أحس بوشعيب بدوار ثم بغفيان . ثم أغمي عليه
...
نهض
بوشعيب جالسا .
قام
بنظرة محيطة على مكونات المكان الذي يتواجد به . ثم صرخ قائلا
:
أين
أنا
؟ ماذا وقع لي ؟ .
انتبه على صوت شخص يفتح باب الغرفة ، كان
طبيب المستشفى ، توجه إليه ، بدأ يربت على كتفيه ويهديء من روعه
:
-
لا
تخف ، أنت داخل مستشفى الأصحاء
....