تاجر الموت

م. زياد صيدم

[email protected]

عندما وطأت قدماه تلك الجزيرة، ساحرة الجمال بشواطئها ذات الطابع الفريد المميز بروادها ونزلائها من أثرياء العالم ..تبادر إلى ذهنه قصة روبنسن كروزو الشهيرة.. لا يعلم كيف خطرت بفكره بالرغم من وجود فارق شاسع بالأحداث، سوى تشابههما بالجغرافيا كونه قاسم مشترك بينهما ، فهو هنا سائحا بكامل وسائل اتصالاته وبفندق من الدرجة الأولى.. وبخدم وحشم يتبارون لخدمته أو بالأصح لمن ثقلت جيوبه وعلا شأنه في بلده أو ذاع صيته في الأمصار المجاورة .. عندما تململت في خاطره ذكرى حياته ونشأته الأولى قبل أن يجتاحه الترف والغنى !كأمواج هادرة من ثروات وأملاك لا تعد ولا تحصى، ليصبح من طبقة أسياد القوم ويشار له بالبنان.. لم يكن يخطر بباله بأن يداهمه الإنتربول الدولي في هذا المكان ؟، وهو الذي احتاط بتنكره وتغيير اسمه وسيرة حياته طوال سنوات خلت بعد تمكنه من الهروب من حكم بالمؤبد .. وألقى القبض عليه داخل غرفة نومه بكل هدوء ودون أي ردات فعل عشوائية، فالمفاجأة أتت بأكلها ، فلم تترك في نفسه مجالا للتفكير بها ، كانت عملية محكمة بتدبير البوليس الدولي بدليل عدم تنبه نزلاء أفخم الفنادق السياحية بالأمر.. وهكذا أسدل الستار عن حياة عامر.. وجردته المحاكم من كل ثرواته وأملاكه لتعود إلى أهلها وأصحابها .. ويعود هو كما كان أول مرة.!!

لم يكن في طفولته طفلا عاديا كباقي جيله.. كان يسبق عمره مقارنه بأقرانه من الأطفال حيث بدت عليه علامات النبوغ والفطنة.. كان في صباه كثير التأمل والأفكار .. يتطلع إلى أن يصبح ثريا كالذين تنتشر وتتصدر أخبارهم الجرائد والمجلات وصفحات الانترنت.. فكيف السبيل إلى إدراك تلك الأمنيات ؟ سأل صديقه قبل أن يرمقه الأخير بنظرات الاستهزاء  ويحول حديثهما إلى نوع من الفكاهة والدعابة .. فامتعض عامر بشده، وتركه ومضى إلى حيث يتلمس ركنا بعيدا، ليعطى لنفسه مجالا أوفر للتأمل، وترتيب الأفكار المبعثرة في عقله، ليستجمعها سريعا، ويخرج بأفكار.. فيسارع إلى صديقه ليبدأ في سردها دون أن يترك له مجالا بان يقاطعه، أو يحبط من أحلامه.. فيسمعه صاغرا، فتنبلج عيناه ويُشغر فاه ، ويرخى أذنيه، لهول ما يسمعه من عامر؟!..

كانت أفكار أشبه بأحلام اليقظة لصعوبة تحقيقها، لكنها أفكار ليست بالمستحيلة؟، كانت تنقصها المبادرة والجرأة لتصبح إما حقيقة، أو تنتهي هناك، خلف  أسوار وقضبان ذاك السجن القابع على مشارف الصحراء، والتي تخيف نزلاءه بمجرد التفكير بالهروب منه، لألي يكون مصيرهم الهلاك المحتوم في رمال قاحلة لا تنتهي..  تلتهب حرارتها على مدار العام نهارا ويشتد صقيعها ليلا.

لم يكن صديقه على علم بان عامر جاد في ما طرحه من أفكار، ولم يتصور بأنها كانت عبارة عن خطة محكمة التفاصيل، أوردها عامر أمام سمعه ليقتنع بها ويشاركه في تنفيذها كما خطط تماما.. ولم يتصور أبدا بان عامر جاد وعلى وشك تنفيذ خطته، التي اختمرت في تلابيب عقله منذ شهور طويلة.. رصد فيها كل شاردة وواردة ، دون كل حركة وكل زيارة كانت تحدث لأوحش الأماكن قسوة وحياة .. كان عامر في أيامه الأخيرة، يحرص على انتهاج الهدوء وقلة الكلام، والتي كانت جزء من الخطة المحكمة.. جعلته محل تكريم إدارة السجون، التي كافأته بجعله مسئولا عن مستلزمات السجناء، و أعمال الغسالة المركزية للسجن، والتي ستشهد لاحقا أكبر عملية هروب من سجن صحراوي، كان يعتبر مجرد التفكير بالهروب منه نوعا من جنون الأفكار، وعبث الحديث، واستحالة  التطبيق، لكن مع عامر لا وجود لمستحيل أو استحالة ..

في الصباح الباكر يستيقظ  معظم السجناء  على أصوات من قرعات الأبواب الحديدية،  وضجيج وحركة غير معتادة من حراس تم استدعائهم من ثكنة قريبة من السجن الحصين.. وعلى صراخ المأمور الذي شوهد في حالة ذهول وارتباك غير معهودة، وعلى صفارات الإنذار التي كان صفيرها يصم الأذان.. وعلى نباح كلاب بوليسية مدربة ، كانت تجرى في كل مكان، تشتم خطوات الهارب بعد أن قربوا من أنوفها بقايا ملابسه القديمة، التي تركها عامر بعد استبدالها بملابس الحرس الخاص بالسجن من داخل المغسلة ...

لينتشر لاحقا الخبر كالنار في الهشيم.. بأن عامر المُشرف على المغسلة المركزية، ذاك السجين الهادئ الوديع،المحكوم بالمؤبد ، استطاع الفرار خارج أسوار السجن المنيع، متنكرا بملابس حراس السجن ليندمج مع المجموعة التي غادرته بعد انتهاء ورديتها، متجهة نحو المحطة المركزية للقطارات، حيث العطلة الشهرية لأفراد مجموعة الحراسة ومنها كل إلى محل سكناه في المدن والقرى، لبلد مترامي الأطراف .

إلى اللقاء.