المهر مقبوض مقدماً
عصام أبو فرحه
انتهت الشمس من لملمة خيوطها الذهبية من الأزقة والطرقات , فتحت مريم الباب ونظرت يميناً ويساراً , فبدا وجهها كبدر مضيء يبدد عتمة الليل , مشت وحيدة في الزقاق تداري وجهها عن الأعين , يكاد تلفتها ان يفضح أمرها وتكاد حركاتها الحذرة ان تخبر عن قلقها , انها المرة الأولى التي تخرج فيها من بيتها دون ان يعلم احد وجهتها , وصلت وهي ما زالت تنظر خلفها وتسحب انفاسها بعناء حيث وجدته يقف في المكان المحدد منتظراًً .
ودونما سلام قالت : والله لولا اني اعرفك جيداً وأعرف من أنت ما أتيت اليك , أعرف ان أصرارك على هذا اللقاء وبهذه السرية يحمل في طياته امرأ جلل فهات ما عندك قبل ان يفتضح امر خروجي .
قال : أظنك تعلمين ان اخي الأكبركان عندكم يوم أمس , وأنه جاء يطلب تحديد موعد العرس ؟
قالت : نعم علمت , وما الجديد ؟
قال : اريد ان أعرف رأيك بعيداً عن اهلي وأهلك .
أنساها السؤال توترها وحذرها فضحكت بعلو صوتها وقالت وهي تحاول كتم ضحكاتها :
تسألني عن رأيي ؟ هل جننت ؟
هل نسيت انك دفعت مهري منذ خمسة عشرعاما ؟ لا أضنك نسيت ,
سمع كلماتها وأحس أن نظراتها مخرز يخترق عينه اليسرى ,
وضع يده على عينه وأشاح بوجهه عنها , عاد بذكرياته الى ذلك اليوم الذي علق بمخيلته بكل ما حمل من تفاصيل مؤلمة , كان عمره حينها ست سنوات وكانت مريم ابنة اربع , والمكان لا يبعد من مكانهما هذا سوى بضع أمتار , كانا يلهوان مع الكثير من ابناء البلدة , وقد سعد الجميع بهطول المطر بعد انحباس , فخرج الأطفال مبتهجين ,. بعضهم يتراشق بمياه جمعتها الحفر , وبعضهم يشكل من طين الأرض أشكالا , اما ( قاسم )* ومريم فقد عكفا على حفر قناة صغيرة تنقل بعض المياه الى زهرة ( حنون ) نمت تحت سقف من القصب فلم تصلها مياه المطر , كان قاسم يحفر الارض بأداة حادة , وكانت مريم تزيل التراب بعد حفره وتضعه جانبا , وقد رفض ان يبادلها الدور رغم طلبها المتكرر والحاحها , فما كان منها الا ان باغتته ومدت يدها ونزعت الأداة من يده بحركة عنيفة لم تقدر عواقبها , ولم تكن لتدرك ان حركتها تلك ستبقيه ابداً بعين واحدة , وكم من فعل يقوم به جاهل يعجز عن اصلاح نتائجه الف عاقل , انغرس ذلك المخرز في عينه واقتلعها من جذرها , اصيب الطفل اثر ذلك بالحمى التي لم تهدأ حتى اندمل مكان الجرح , ولم يندمل الجرح حتى أحدث اعوجاجاً في الأنف والفم , انقلب الوجه الملائكي البريء الى وجه مشوه , يسخر منه البعض ويخافه البعض , وبعد ان هدأت النفوس وتقبل الأهل ما جرى كأمر واقع , جاء والد مريم مصطحبا ابنته , وقال :
ليشهد الجميع وليعلم حاضركم غائبكم ان مريم ستكون لقاسم دون سواه , وأن مهرها قد وصلنا ألا وهو تلك العين التي فقدها قاسم .
ظل غارقاً في أفكاره شارداً فيما مضى حتى أعاده صوت مريم الى مكانه وزمانه حيث قالت : هل من أجل ذلك كان اصرارك ان تراني ؟
التفت اليها وكأنه عاد لتوه من عالم آخر , فعاد الى اتزانه وعدل من وقفته وقال :
قلت لك اريد ان اعرف رأيك بعيداً عن الأهل , نحن ابناء اليوم , واحسبي انك لم تعرفيني من قبل , ان كنت تقبلين بي بعيداً عن الماضي فهذا يسعدني , أما ان كان قبولك عقوبة فرضت عليك عن ذنب اقترفتيه وانت طفلة , وأنهم يريدون تنفيذ العقوبة بعد سنوات وسنوات , فهذا ما لا أقبله ابدا , واعلمي ان ما ستقولينه سيظل سرأ لن يعلم به الا خالقنا وايانا .
صمتت مريم برهة , تنظر بذهول ولا تعرف ما يمكن ان تقول , بعد قليل كسرت حاجز الصمت بكلمات تخرج بنبرة مترددة وعلى استحياء : ولكن ؟؟؟ والمهر ؟؟؟؟ والناس ؟؟؟ والاهل ؟؟؟
قطع قاسم ترددها : لا تخافي وقولي ما تريدين , ثقي بي يا ابنة العم ,
قالت وقد استطاعت التخلص من ترددها وذهولها : نعم احس ان زواجي منك عقوبة فرضت علي , وأحس ان المهر الذي يتكلمون عنه لم يصلني , انا فتاة في مقتبل العمر , يتغنى القاصي والداني بحسني وجمالي , ما يجبرني على الارتباط بشاب لا يمتلك الحد الأدنى من الوسامة ,
( وكأنما استعاضت بتلك العبارة عن عبارة , يمتلك الحد الأقصى من البشاعة ) , وأكملت : انا لا احبك , وليس بأستطاعتي ان احبك , وكم وددت لو قلت لهم , خذو عيني وارجعوا له مهره , لكن ما كان بأمكاني ان أتكلم قبل الآن .
عادت مريم الى بيتها دون ان يشعر احد بخروجها أو دخولها , لم يغمض لها جفن في تلك الليلة تتقاذفها الأفكار , وتتخبطها التوقعات , ما كان يجب علي قول ذلك , لو علم والدي سيقتلني لا محالة , لقد تسببت له بجرح جديد سيفقده صوابه , ستكون ردة فعله عنيفة , سيتزوجني رغم ما سمع , وسينتقم مني شر انتقام , لا يمكن ان يتنازل ببساطة عن ذلك المهر الثمين الذي دفع , آه لو انني لم أذهب للقائه , آه لو انني لم اتكلم , أي شر ينتظرني ؟
انقضت تلك الليلة بثقلها وطولها , ومر النهار طويلا , انتظرت مصيرها بخوف وترقب الى ان جاء المساء وعاد والدها الى البيت , وقد احست ان روحها وصلت الى حنجرتها عندما سمعته يقول لوالدتها ( نادي على مريم وتعالي معها ) , ولم تنتظر النداء فسارت نحوهم بخطوات بطيئة متثاقلة , وصلت بعد جهد الى حيث يجلسون حيث قال والدها بصوت لا يوحي بغضب :
اجلسي يا ابنتي , جلست وهي تحاول اخفاء توترها , تابع الوالد :
جاء الي اليوم جارنا قاسم , وقال لي يا عم : اريد ان احدثك بشيء يصعب علي قوله , ولكن ما يدفعني هو احساسي بأنك بمقام ومعزة والدي رحمه الله , يا عم , اني لأشعر بشعور الاخ تجاه مريم , وأني لأحس ان عيني التي فقدتها لم تكن مهراً لها , وأنما كانت عربون أخوة ربطتني بها منذ ذلك اليوم , ولن أبخل على اختي بعيني الأخرى لو أرادت , أنا احب فتاة غير مريم , وأرغب في الزواج منها , أعرف ان مريم بحكم خطيبتي , وأعرف ان اخي طلب منك تحديد موعد العرس , ولكنني لا أريدها زوجة , ولا استطيع أن اتكلم مع أخي في ذلك , فجئتك أطلب المساعدة .
قامت مريم من مكانها ودخلت غرفتها دون ان تنبس بكلمة واحدة , جلست تستعيد ما سمعت بين مصدقة ومكذبة , أعادتها الذاكرة الى لقائها مع قاسم , استذكرت حديثه , حاولت استحضار معالم وجهه , أحست بأن الجمال هو جمال الروح حقا , شعرت انها تواقة للقائه من جديد , لتنظر الى ذلك الوجه الذي يخفي بين قسماته وتشوهاته جمالاً لم تره في حياتها , ولتستمع من جديد الى كلمات يقولها رجل تتمنى أي فتاة ان تكمل معه دربها , أسلمت نفسها للنوم علها تراه في منامها يمتطي صهوة حصان ابيض .
** (رحم الله جدي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته , يحدوني الأمل في تكرم كل من يقرأ القصة بان يترحم على بطلها ( سيدي قاسم ) وأن يقرأ الفاتحة على روحه وعلى أرواح اموتنا جميعاً )