شهيد وشهيد
شهيد وشهيد
بقلم : غرناطة الطنطاوي
دفع الحنين بالأسرة _ المهاجرة قسراً _ إلى نابلس، بعد طول تشرد وضياع ، فقد هدّدهم اليهود ؛ هدّدوهم في أرواحهم وأولادهم، وأضرّوا بمصالحهم ، فغادروا مدينتهم نابلس ، وخلّفوا قلوبهم فيها ؛ فحبّ الوطن من الإيمان، وحبّ الوطن فطرة في الأسوياء، حبّ الوطن فوق كل حبّ وقبل كلّ حبّ في هذه الدنيا .
قبّل (باسم) تراب بلده، وأقسم له اليمين أن يعيده حراً طاهراً نقيّاً بعد غياب استمرّ بضعة عشر عاماً، وأن يذود عن حياضه بكل ما أوتي من إيمان وعزم وتصميم ... أن يبذل ماله وقوّته ودمه في سبيل تحريره ، واستخلاصه من أيدي غاصبيه ..
بعد أيام اندلعت الانتفاضة، انتفاضة شعب كريم مقهور، لم يعتد الذل والاستكانة، فقد يكون رضخ في بادئ الأمر من هول المصيبة، ولكنه كان رضوخاً أشبه بتحفّز الأسد قبل الهجوم... شاركت فيها النساء والأطفال والشباب... الحجر الصغير في يد ثائر مكلوم أصبح رصاصاً يزعزع ثقة العدوّ بمدفعه ورشاشه وعقيدته وقادته.. الثوار في الشوارع يرددون: الله أكبر... فلسطين حرّة...
تلثَّم (باسم) وحمل بيده (نقّيفة) وبعض الحجارة الصغيرة التي جمعها من حُفَر الزقاق الذي يقيم فيه... كان يقول وهو يتناول الحَصَيَات والأحجار :
- باسم الله سأحطّم بك رأس أول يهودي حاقد ألقاه في طريقي ...
ثم يقبّلها ويضعها في كيس صغير مبتسماً فرحاً بجهاده المقدّس... وأمُّه ترقبه من بعيد بقلب واجف خائف على وحيدها، قلبها يدقّ بشدّة، يريدها أن تجذب فلذة كبدها إلى حضنها الدافئ... وعقلها يهدّئ من روعها، فالموت حق و (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة)...
وبينما هي في مدّ وجزر بين عقلها وقلبها، ركض (باسم) أمام عينيها ليلحق بالثوار، فانحسر عقلها، وركض قلبها وراءه، وركضت هي وراء قلبها الذي في صدرها، وقلبها الذي حملته في بطنها تسعة أشهر، وربّته حتى صار شاباً يافعاً... متوسلة راجية من وحيدها العودة معها، فليس لها حياة بعده، فهو أملها ومستقبلها... ولم تشعر الأم المسكينة الهائمة إلا وهي في قلب المظاهرة، والهتافات من حولها مبحوحة مجروحة، والأيدي تلوّح بالويل والثبور لكل يهودي مغرور... وحنجرة طفل صغير لم تسعفه أوتارها برفع صوته عاليا،ً فقفز وتعلّق برقبة رجل طويل أمامه، وتسّلق حتى ارتقى كتفيه، مردّداً بصوت رفيع حادّ يقطّع نياط القلوب:
- الله أكبر فلسطين حرّة...
وإذا رصاصة غادرة تخنق صوته إلى الأبد، فترجّل الفارس الصغير عن كتفي فرسه، مضرَّجاً بدماء قانية تنادي في بيداء العرب: "وامعتصماه" لعلها تعود جمانة في جيد عروبة اليوم، كما كانت كلمة خالدة في جبين التاريخ تنير دروب الحاضر والمستقبل...
أسرعت (أمُّ باسم) وضمّت الفارس الصغير إلى قلبها كي تنقل نبضات قلبها إلى قلبه الصغير... نبضات قلب فلسطين.. كي يظلّ ينبض بالحياة الكريمة مرفرفاً بأجنحته النورانية فوق السواري العربية... كانت تردّد هي الأخرى:
- الله أكبر... فلسطين حرّة ... يا أوغاد، يا مجرمون ، كيف تجرؤون على قتل الطفولة ؟..
وصاحت بأعلى صوتها:
- يا (باسم) يا (باسم) يا أملي وحياتي تقدّم فالثوار في انتظارك ...
ونظرت إلى الشهيد الصغير نظرة امتنان وشكر، فقد أنعش دمه زهرة الجهاد في النفوس، بعدما ذبلت وكادت تموت. وانهالت الحجارة كأنها من سجّيل، فأصابت رأس يهودي أهوج جعلت الشرر يتطاير من عينيه، والرصاص من مسدسه هنا وهناك، وما عرف الجبان أنه ومن معه من اليهود يزرعون رصاصاً فيحصدون ثواراً.
أقبلت الدبابات المصفحة والرشاشات تطلّ من ورائها وجوهٌ صُفْرٌ فتفرَّق الثوار... ولكن رصاصة هائمة أبت إلا أن تستقر في صدر (باسم) فارتمى على الأرض وارتمت أمه فوقه تحاول أن تمنع تدفّق الدم من ينبوع وحيدها كيلا تتسرّب حياتها منه... تقدّم منها جبان آخر وضربها بمقبض بندقيته وجرّها بعيداً عنه وأبعد كل من كان حوله...
جاءت سيارة إسعاف تحاول إنقاذه ولكن الحقد اليهودي تصدّى لها... الدماء تنزف، والملائكة مستبشرة تزفّ البشرى بقدوم شهيد جديد إلى السماء، والشباب على الأسطحة... في الطرقات... في الزوايا يكبّرون، والنساء يزغردن، وأمُّ (باسم) تهمس إلى أرض فلسطين:
- ابني حشاشة قلبي... بذرة عمري زرعتها فيك لتثمر وتقلع الشوك وتحيي الأمل...
ثم انطلقت منها زغرودة خافتة ولكنها عبقة ملأت أجواء المدينة سكوناً ورهبة
وأملاً...