التائهة

التائهة

بقلم : غرناطة الطنطاوي

قال محمود :

- زوجتي ضائعة!!...

وانفجر ضاحكاً...

استقبل أبو أيمن أخاه (محموداً) مشدوهاً فاغراً فاه قد عقدت الدهشة لسانه، وفتح يديه مرحّباً محتضناً إيّاه، فقد عاد بعد غياب طويل، فالرحلة كانت طويلة شاقة، كان فيها كمن يصعد قمة (أفرست) بما فيها من مفاجآت ومغامرات وأهوال...

كم كان أجدادنا محظوظين. كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الجمال المتهادية في اطمئنان، يتبادلون الأحاديث الشجيّة فتثار شاعرية أحدهم فيرفع عقيرته بالغناء الصدّاح الممزوج بأتراحهم وأفراحهم، يسكبون ما في نفوسهم من مشاعر وأحلام وأماني على أراجيزهم المرتجلة أحياناً كثيرة... لا يخشون أذناً متلصصة تسجّل همساتهم، أو عيناً ترصد حركاتهم..

قد يخرج لهم قاطع طريق يسلبهم أموالهم، ويشوّش عليهم أحلامهم... أما الآن فقُطّاع الطرق كثيرون كثيرون قد خلعوا اللُّثُم عن وجوههم وتزيّوا بأبهج الحلل وبأكثر من لون.. فمرة يظهرون بزي الجمارك، وتارة أخرى بزي أمناء شرطة، وتارة ثالثة بزي.. وبزي. وكل فردٍ منّا ليس إلا آلة لها يد تمتد إلى الجيب لتخرج (المعلوم) تقدمه لهم... ولك أن تسمّي هذا (المعلوم) رشوة أو هديّة أو إتاوة أو ما شئت من الأسماء. لا يهمّ..

سأل أبو أيمن أخاه:

- أين زوجتك؟ منذ ثلاثة أشهر وأنت تقول بقيت ورقة واحدة وتنتهي معاملة الجواز وتأتي بها مع أولادك، فهل أنجزت تلك الورقة؟

أجاب محمود:

- تصوّر أنني متزوّج من امرأة على هامش الحياة! ليس لها اسم ولا شهادة ميلاد عند الدولة، هكذا ظهر لي في هذه السفرة.

- كيف؟

- عندما قدّمت طلباً لاستصدار جواز لزوجتي طلبوا مني أن أعود بعد أسبوع… توسلت إليهم أن يستعجلوا ما أمكن في تحقيق طلبي… فغمز موظف آخر كان جالساً إلى جانب الذي أحدثه، وأشار بحركات فهمتها، وقلت في نفسي "يا فتّاح يا عليم" وأخرجت من جيبي ما تيسّر، وخرجت وقد منّيت نفسي بأن (ما تيسّر) هذا، سيعمل عمل السِّحْر وسأنتهي من معاملة الجواز بسرعة الضوء.

وبعد أسبوع ذهبت إلى الموظف المختص لأتسلّم الجواز، وإذا الموظف ينتهرني قائلاً:

- زوجتك هذه ليس لها قيود عندنا...

ظننته يمزح، فتابعته في مزاحه قائلاً:

- ربما جاءت من المريخ.

قال جاداً:

- أنا لا أمزح.

فأجبته بهدوء بعد أن شحذت من حلم الأحنف الشيء الكثير:

- يا سيّدي هذا هو اسمها، إنه مسجّل في دفتر العائلة في خانة "الزوجة الأولى" وهذه هي أسماء أبنائي الثلاثة مسجّلة في دفتر العائلة... إنهم جميعاً أبناء زوجتي ليلى.

هزّ الموظف رأسه بالنفي فهل يصدق المستندات التي بحوزته ويكذّب (القيود) التي عنده؟

استجديت عطفه وشفقته أن يبحث مرة أخرى، ولكن لا حياة لمن تنادي...

أخرجت ورقة نقدية أدارت رأسه، وبعثت الحياة في أصابعه، فانطلق يقلّب الأوراق الصفراء المتراصّة أمامه، وفي الخزانة، وفي المخزن، ولكن دون جدوى.. صرخت في وجهه ولكن (ابن حلال) كان بقربي نصحني -لوجه الله- ألا أتعدَّى حدودي، وأصرخ مرة أخرى، فيؤوّل صراخي هذا بأنه دعوة إلى تمرّد أو ربما يكون دعوة إلى ثورة أو انقلاب في الحكم...ضحكت من أعماقي لنصيحة صاحبي هذا... صرخة قد تؤدي إلى نفيي من الحياة كلها... عجبي منك يا زمن...

حار أبو أيمن فيما يسمع، فهو -خلال عمره المديد- لم يحدث له مثل ما حدث معي، ولم يسمع من قريب أو بعيد قصة كقصة زوجة أخيه الضائعة في الملفات الحكومية..

قرأ محمود ما دار في خلد أخيه، فضحك ضحكة مستهزئة وقال له:

- اسمع هذه الحكاية يا أبا أيمن... شاهدت رجلاً في السبعينيات من عمره في تلك الدائرة الحكومية، وقد استهلك عدّة أحذية -صدقني- في غدوّه ورواحه إلى الدائرة ليثبت أنه مولود وموجود في هذا البلد، قبل أن يخلق هؤلاء الموظفون بعشرات السنين، ولكنه لم يستطع إثبات ذلك. فقلت له:

- يا عم إنك كبير في السن، ولن تغادر البلاد، ولن تحتاج إلى جواز سفر أو غيره، فلماذا كل هذا التعب؟!.

فقال العجوز المسكين:

- لكي يستطيع أبنائي أن يرثوني بعد وفاتي.

صعّد أبو أيمن زفرة كالفحيح وقال:

- إيه... إيه... صحيح من يعش رجباً يسمع عجباً..