مطاردة

نعماء محمد المجذوب

تداعيات موقف

مطاردة

نعماء محمد المجذوب

فوجِئتْ به يقف خلف الباب، عارياً كما خلقه ربه، مستنداً إلى الجدار، ملصقاً بكفيه فوقه، تبرز منها أظفاره المعقوفة، وعيناه الجاحظتان تحملقان بها، وبين الفينة والفينة يخرج لسانه، يحدثها بالإشارة، يرتجف من الخوف والفزع، مستعد كي ينقضّ عليها لأدنى حركة منها تريبه.

ارتجفَتْ، فزعت، وتساءلتْ:

- من منا أشد خوفاً وفزعاً، أهو أم أنا؟

تسللت بحذر، وأوصدت الباب دونه، لا أحد في البيت، هي وهو..

كان لهاثها يتسارع، وتصويته يحذرها من الاقتراب منه.

 كيف تسلل هذا اللعين داخل البيت؟!

النافذة المطلة على الحديقة مغلقة، ولكن من غير حماية، بلا حديد ولا شبك، وباب الشقة مغلق جيداً، من أين دخل؟

تذكّرتْ:

شاهدته إحدى المرات، ملتصقاً بالجدار في الحديقة، كان يراقب النافذة، يلعق شفتيه بلسانه، وعيناه تهربان إلى داخل الغرفة من خلال الزجاج، وقتئذ أحكمت إغلاق النافذة، وشعرتْ بالأمان.

تساءلت ثانية بدهشة:

كيف تسلل، وتجوّل بخفية في أرجاء البيت؟

وضح لها الآن السبب.

كثيراً ما كانت تنبه زوجها، وتوبخه لترك النافذة مفتوحة، إنه ينسى، فماذا تفعل، هذا عاقبة النسيان أو الإهمال.

أتى الزوج، فتشا عنه في كل مكان.. وراء الأبواب، وبين الأثاث، وتحت الأسرّة، وفي كل ركن، فقد اختفى، ولم يعثرا له من أثر، لا صوت، ولا صورة.

قالت لجارتها بأسف:

- وبقيتُ "يا عزيزي" أياماً متتالية، وعيناي تجولان تحت الأشياء ووراء، وبين الأشياء إلى أن أُصبتُ بدوار، وتشتت كياني وصار شغلي الشاغل، حتى كنت أنام وأنا مفتحة العينين.

بلهفة سألتها:

- وزوجك، هل هو كذلك؟

أجابتها بضيق:

- ياه! إنه لا يهتم بمثل هذه الأمور، ويعتبرني، خيالية، أعيش في وهم.

ضحكت "الجارة" وبجديّة قالت:

- كوني مثله، دعي التفكير بما شاهدتِ، كما دخل هذا اللعين البيت، فلابد أن يخرج منه بطريقة ما.

وبسخرية مطت شفتها، وبحيرة قالت وهي تغمز بعينيها:

- قد يكون ما تتحدثين عنه وهماً.

اقتنعت برأيها الأول، وقالت في نفسها:

"بالفعل: كما دخل البيت، فقد خرج، أو سيخرج حراً طليقاً."

اليوم بدا الوهم حقيقة، فلا يزال في البيت، تتبعَتْ صوته، كان يغني موالات ذات إيقاعات رتيبة، إنه يتحدّاها ويشاكسها.

ها، ها، أنا هنا، مهما بحثت عني فلن تجديني.

باستياء ومرارة قالت:

- آه لِمَ تعذبني أيها اللعين، وأنت تعلم بأني في البيت وحدي؟

مشت تلمس الأرض بقدميها لمساً، وهي تكتم أنفاسها، وعيناها تلتصقان فوق كل جدار، ووراء الأبواب، وتحت المقاعد، وترتدان فجأة من خوفها بين قدميها، ثم... شاهدته يلتصق بالجدار في ركن من أركان المطبخ، رماها بنظرات شذرة، تظاهر بالشجاعة، ولكن كان يرتعش من الفزع، ويخرج لسانه، ويحركه في كل اتجاه، وقد ابتلع صوته، واستعد للانقضاض عليها بمخالبه البارزة، وعيناه الجاحظتان تراقبانها.

بحذر شديد أوصدت دونه الأبواب والنوافذ، وضيقت عليه الخناق في المطبخ، وقيدت حريته.

وقتئذ دخل الزوج، وبدأت المطاردة.

بدهشة سألتها الجارة:

- وبعد ذلك ماذا حصل، تابعي.

أجابتها بارتياح:

- كانت معركة ضارية يا عزيزتي، طاردناه في كل اتجاه، تحت الطاولة، والثلاجة، وبين الأشياء، وسلاحنا المقشة والكشاطة، ولو شاهدته لتعجبت من رشاقته، وخفة حركته، والسيمفونية الصادرة من حلقه تحولت إلى صراخ، وعويل، كأنه يستنجد بقوله:

- ياهوه.. يا عالم.. أنا بريء، لم أسرق شيئاً، ولم أؤذ أحداً، دعوني أخرج من هنا.. دعوني.

كان صوته يصوت بضجة غير منتظمة، تتناثر في كل اتجاه، وما لبث أن اصطدم بصفعة قوية هتكت جسده، وكتمت أنفاسه.

بحرارة سألتها الجارة:

- وبعد.. ماذا فعلتما بجثته؟

عجباً تقتلان بريئاً لمجرد دخوله بيتكما؟!

آه.. لو علمت الشرطة بعملكما لاعتقلتكما، ولكان مصيركما الإعدام!!.

بحدة، وبدهشة سألتها:

- من تظنين يا جارة؟

أجابتها:

- طبعاً، الطفل المشاكس العفريت الذي أقضّ مضجعك.

ضحكت السيدة، كادت تنقلب على قفاها من شدة الضحك، وباستغراب قالت:

- أي طفل قد قتلنا؟

لقد سرح خيالك بعيداً، إننا كنا نطارد "أبا برص".

ضربت الجارة كفاً بكف، وباستنكار قالت:

- زمن وأنت تتحدثين عن القتيل، وبنظري هو شهيد، فإذا هو حشرة "أبو برص".

أجابتها بشيء من الأهمية:

- إن لم نقتله فسوف يقتلنا بسمّه الذي يفرزه مع لعابه، فارتأينا أن نتخلص منه قبل أن يقضي علينا.

وألقت شهرزاد الموقف في حظيرة الذكريات.