فقط لو أستطيع البكاء
دلال رشاد - غزة - فلسطين
أَنْظرُ فِي أَعْيُنِهِم فَلَا أَرَى سِوى ناراً تَتَقِد..
أشعرُ بِأنَّهم يَنْظرُون’ ولكنَّهم لا يَرَوْنَ إلَّا عالماً خاصاً بهم .. عالمٌ مليئٌ بالغَضَبِ والرَّغْبَةِ بِالإنتقام.
صغارٌ هُم..أحبائي ، أشعرُ بالحُزنِ يقتلعُ قلبي ، بَلْ يقتلعُني مِن قَلبي.
النسوةُ حَولي وحَولَهُم ، أشعرُ بِنَظَراتِهِنَّ تُلهِبُ وَجْهِي ، يَعْتَقِدْنَّ أنَّ جُنُونَاً مَسَّنِي أَو خرَفاً أَصَابَنِي.
صَمْتٌ ثَقِيْلٌ خَيَّمَ عَلَى المَكَان..
قَالتْ إحْداهُنَّ بِصَوْتٍ خَاْفِتٍ : نَحْمَدُ اللهَ عَلى السَرَّاءِ والضَرَّاء.
رَمَقْتُها بِنَظْرَةٍ جَعَلَتْها تَرتَدُ إلى الوَرَاء ، وَتَحْتَرِمُ صَمْتَاً عَلَى الرُغْمِ مِنْ ثِقَلِهِ’ وَمَرَارَتِهِ، إلَّا أنَّهُ أَقلُ وَطْأةً مِنَ الكَلَام.
لَسْتُ أذْكُرُ عَدَدِ المَرَّاتِ التَّي صَحَوْتُ فِيْهَا عَلَى صَرِيْرِ أَسْنَانِي وَزَمْجَرِة حَلْقِي..
فِي المَاضِي.. كَانَ جَسَديِ يَئِنُ تَحْتَ وَطْأةِ الحِرْمَانِ مِنْ دِفْءِ زَوْجٍ ، عَافَتْ نَفسُهُ عُقْمَ رَحْمِي ، الآنَ يَصْطَلِي
قلبي بحقدٍ لا يهدأ، ونَارٍ لَا تَنْطَفِيء.
حَمَلْتُهُ بَيْنَ يَديِّ.. كانَ دافئاً ، طَرِيَّاً، لَزِجَاً، حاولت جاهدةً ألَّا يقع أرضاً من بين أصابعي المرتجفة..
كَانوا يُنظرون اليَّ برعبٍ ودهشة..
(المجاهدون) ’ والمنافقون ،والرعاع ، والمستضعفون في الارض ، كلهم كانوا هناك..
بِإتجاه (المجاهدين)..مَشَيْت..كَانُوا يَنْظرُوُنَ إلَيَّ مِنْ وَرَاءِ أَقْنِعَتِهِم السَوْدَاء ، ورَشَّاشَاتِهمِ المُسْتَنْفِرَةِ نَحْوِي.
يعلمُ اللهُ كَمْ تَمَنَيْتُ أَنْ يُفْرِغُوْهَا فِي قَلْبِي..يَعْلَمُ اللهُ كَم تَمَنَيْتُ أن يَلْتَحِمُ جَسَدِي بِمَا أحْمِلُ فِي يَداِي..
بَلْ فِي قَلْبِي..
لكِنَّهُم لَمْ يُطْلِقُوا النَّار ’ فَقَط تَراجَعُوا بِذُعْرٍ للخَلفِ ’ تاركين لي ممرا للولوج الى قبري.
تُرَى هَلْ جُنِّنْت؟ أَعْلمُ جَيِّدَاً مَا يَقُولُونَه عَنِّي ..
يَتَهِمُونَنِّي بِالشُذُوذِ وَ بِالجُنُونِ لِأَنَنِي أحْتَفظُ بِدِمَاغِهِ داخلَ ثَلَّاجتي.. أخِيْراً أصْبَحَ لثلاجتي المتهالكة قيمة.
ترنيمتي قبل النوم..
نَم..
نَم هناكَ يَا حَبِيبِي..
سَيَأتِي يومٌ تَرتَاحُ فِيه..
نَم..
نَمْ هناكَ يا حَبيبي..
سَيأتي يومٌ تَلتحق بجسدك فيه..
بالنسبةِ لي.. كانَ كلَ المعاني الجميلة والنبيلة في حياتي..
بالنسبة لهم.. هو مجرد فقيد ’ ميتٌ آخر تزدحمُ به القبور.
أَحْتَفِظُ بِدِمَاغِهِ بَارِدَاً كَيْ لا يَبرُدَ لَهِيبُ قَلْبِي..
حَدَثَ ذَلِكَ يومُ الجمعة..
كانَ يسيرُ في تشييع جنازةِ شهيدٍ..أو..قتيل..لست ادري!
فماذا نسمِّي من يقتله (المجاهدون)! أنسمِّيه شهيداً أم قتيلاً
إنهالَ (المجاهدونَ) على المشيِّعين بالضربِ لتشييعهم جنازةِ علمانَّي كافر
يومها قُتِلَ أخِي
تَرَكَ خمسةَ أطفالٍ , سادِسَهُم فِي بَطْنِ أُمِّه
يومَها..صرخَتْ النائحة: يا مريمُ لقد قتلوا أخاك
انتفضتُ مِن قيلولتي..
اندفعتُ في الشوارع , افتشُ عن صدى صوتٍ , أو فتاتَ خبرٍ يدُلُنِّي عَلَيْه
كنت اهرولُ..من زقاقٍ الى زقاق..ومن شارعٍ لاخر.. صارخةً فِي أَعْمَاقِي:
يارب ..لا تجعله اخي..
فليكُنْ أي أَحَدٍ آخر.. فقط لا تجعله أخي.
تَخَشَبت قَدماي..وَجفَ حَلْقِي..كانت الدماء في كل مكان..
وَجَدْتُ دِمَاغَهُ قَبْلَ أنْ أَجِدَ جَسَدِه..
رَصاصةٌ واحدة..
لم يتطلبْ الأمرُ أكثرَ مِنْ ذَلِك..
لَقَدْ تَجَرَأَ وَصَرَخَ ب(المجاهدين) وَهُم يَرْدَعُونَ المشيَّعين لجنازةِ العَلْماني الكافر ..
فقطْ.. رصاصةٌ واحدةٌ وانتهى الامر.
..كانَ إمامَ مسجد, لم يحملْ سلاحاً ولم يتحزب..
كونوا عباداً ربَّانيين.. حرامٌ على المسلمِ قتلَ أخيهِ المسلم.
هذا ما كان يردده دائماً..
الديِّةُ المُحَمَّدِيَّة!
وما الدِيَّة المحمدية؟
إنَّ (المجاهدين) يَعْرِضُونَ عليكُم الدِيةُ المُحَمَدِّية كفارةً للقتلِ الخطأ.
صوتٌ اخر يجب ان يخرس..
صوتٌ اخر يجب ان يخرس..
ويعلو صوتٌ يزلزلُ أعْمَاقِي.. فلتحيا هندُ آكلةُ الأكْبَاد..
هل جننت؟
هل جننت!
رحماك يا ربي..
رحماك
اهٍ يا أخي..فقط لو أستطيعُ البكاء