في ظلال الحرب

مجدي السماك

عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا 

[email protected]

اعرف تماما وهذا الأكيد الوحيد الذي أدركه أنه كان يوما حربيا ودمويا بامتياز. لم يكن بمقدوري تحديد مكاني على وجه الدقة وأنا ابحث لنفسي عن مكان آمن بين القذائف. ولكن بالتأكيد أنني كنت واقفا على أعتاب أبواب يوم القيامة. وقتها توقف لساني عن الكلام بلغة مات حاكيها ونقشت حروفها على جسد مات محترقا ومختنقا في دخان اسود، تصاعد مبثوثا من ذاكرة مهجورة، سكنتها وبعثتها كهنة آلهة الحرب القديمة، فتعاركت الذكريات مع الذكريات على أرضي أمام البحر الحي عندي.. وفي الناحية الأخرى يربض بحر ميت مسلوب المياه والملوحة ينظر إلىّ وحيدا مكفهر الوجه. وتحولت كلمات الآلهة التي تعبد الآلهة إلى شعارات انهزمت عند أول اختبار لله على جسدي. في ذلك اليوم منذ أول قصف قتل جارنا بعد الصبح.. وترك وراءه خمسة أطفال أكبرهم لؤي وأصغرهم أفنان، وزوجته.. تركهم كلهم يموتون تحت الركام.. وعلى ما يبدو ذهب هو ليموت وحده موتته المفضلة بطريقته الخاصة قرب باب منزله.. وهو يبحث في ارض الله لهم عن كسرة خبز.

في ذلك اليوم واتتني فكرة غبية جدا وصغيرة جدا ومهمة جدا.. تفوق الغباء نفسه.. كيف أعرفني إن كنت حيا أم ميتا؟ حرت.. توقفت.. تبلبلت.. فكرت.. تعذبت.. فهداني الله إلى ظلي. نعم..على الفور عرفت أن جسدي ما زال حيا وفيه فوق هذا قلب من المؤكد أنه ينبض هو قلبي، إنه لي. زاد يقيني حين رأيت بأم عيني ظلي وهو يتحرك بحرية ويتبعني.. شكرا لله.. ثبتت الرؤيا.. اكبر دليل على أنني ما زلت أتنفس ومسجل اسمي في قائمة الأحياء الموجودين المنتظرين عند حافة الموت.. وكم مرة قبل ذلك حاولت وقرصت جلدي ولكن لم أحس بي كأن حياتي توقفت دون أن ادري.

كنت يومها لوقت قليل قبل الحرب قد تبت وأنا الآن ما زلت حديث العهد بالتوبة، وتخليت عن عبادة ذاتي، ولكنني بقيت أقدس ظلي بصمت سامق عال، فظلي هو الوحيد الأكيد الواضح المتحرك الحي سيد الوجود الأنبل بين الصحراء والبحر، و بين بحرين، وبين قذيفتين، وبين شهقتين، وبين قذيفة وجثتها. والبحر كان يومها لا يزال يوزع هدير أمواجه على أنغام نوبات الموت القادم من صفحات السماء وبوارج عالية في لجة البحر، في بحر البحر. وعندها سألت نفسي بحمق جليل له وقار العجائز.. هل ستقوم القيامة قبل أن أعلن للملأ انتصارات دمي على رفات دبابة قتلت ألف طفلا. دعوت الله ألا تقوم الآن أي قيامة، فأنا الآن مشغول وبحاجة إلى أي وقت لاغني موالا لم استطع أن أحفظه وأنا مرتاح وقت السلم.. ولكن تحفظه امرأة أخطأتها قذيفة طائشة وهي عائدة إلى حيث لا اعلم، واختبأت من الموت قربي بين ركامين وكومات جثث، وكانت تجمع شجاعتها كي تتبول في حمام بيتها، المقطوعة عنه المياه منذ أول نوبة موت ذاقت طعمه في الليل، حين قتلوا كل أولادها.. ولكن ماذا لو قامت القيامة وهي في الطريق إلى البول؟. ونسيت من غبائي أن أسالها أين أنا الآن موجود؟ فظل مكاني سرا أعظما لا يعرفه سوى ظلي وصمتي العظيم المقدس.

صمتي في ظهيرة ذلك اليوم كان عائما بين صمت وصمت، وكان صمتي الذي لي هو الشيء الوحيد الذي له رنين وله صراخ وله نبرات وله كلام.. لا يسمعه إلا من يقف مكاني بين الموت والحزن وسط الخوف.. كقمر أتعبه الدوران حول الذات فاستراح مخنوقا بين غمامتين بلا مطر. وصار الصمت كالزمن وهو يبتلع الزمن.. وكالمكان الذي يذوب في المكان.. لتتحول الدنيا كلها في تلك اللحظة إلى صحراء فائدتها الوحيدة أن نجهز فوق رمالها سباق الهجين المزخرف بكل ما فيه من قداسة العرب.. والمقروء عليها كي تفوز في السباق الهجين آيات من الذكر الحكيم. 

وعند العصر تمزق الزمن إلى أشلاء مع الأشلاء الدامية عند اختناق الشمس ليس بعيدا في صرة الأفق.. في لحظة كلي عشتها كلها، وكلي أحسستها كلها، وكلي هضمتها كلها.. لحظة يزيد طولها بمرات قليلة عن ذلك الوقت الفاصل بين زفرة وشهيق، وبين دقتي قلب.. وهو نفس الزمن الذي كان يفصل بين قذيفتين طوال فترة الموت.. وحدي عشتها وأنا في مكمني أتسمع إلى المجرم يخاطب ضحيته قبل حفلة القتل. وكانت لحظة غريبة جدا والغريب فيها هو أنها كانت عادية جدا وباردة، والعادي فيها هو أنها كانت غريبة جدا وساخنة. حين شاهدت وجه القاتل وهو يشبه بالضبط وجه ضحيته قبل أن يقطع رأسه ويدحرجها، وكأنه نسخة منه أو هو عنوة سرق وجهه وتقمصه.. والمجرم في رقاعة قصوى كان يحمل نفس اسم ضحيته.. فقلت لنفسي إن لم أمت ووقفت الحرب في يوم ما، فسأبحث عن التشابه بين القاتل والمقتول في ذكريات تتحارب على شجرة زيتون اخضر، وهي التي كانت في يوم ما متصالحة في مكة.. وفي جبال الناصرة.. وقبل ذلك في جنة حقيقة حين أكل آدم منها تفاحة واحدة بالحرام، فنزل عاصيا تائبا إلى الأرض.. بل إلى أرض الأرض.. لكن الله باركها فيما بعد وخزن فيها النفط.

وقبل المغرب.. وكانت الشمس لا تزال طالعة فيها حمرة سخيفة جدا.. كالدم الطازج قبل أن يجف ويعتق.. وكان الاستشهاد قد تحول من حولي إلى موضة إجبارية جديدة مفصلة لتناسب مقاسات أجسادنا اخترعها لنا العدو الأكبر بكل صهيونيته نيابة عن أمة بأكملها، لأطفالنا ونسائنا لتنقلها الشاشات إلى غرف النوم.. والصالونات.. والمقاهي، فتنبح الحناجر من اجلنا قبل أن ترجع إلى شهوتها ووقتها العادي اليومي. وكانت الخيام الكثيرة التي أعدت من اجلنا اصغر واقصر من مقاسنا ومقامنا وأسمائنا.. عندها.. وعندها فقط..اكتشفت.. بل تذكرت أنني ما زلت لاجئا، رغم أن القيامة لم تقم بعد.. وعرفت حينها أنني في مكان قريب من أقصى شرق الغرب، أو شمال الجنوب.. وربما في الوسط بين حزنين سخيفين متشابهين من الخارج.. احدهما شهي والآخر قبيح بل أقبح ما في الزمن.. وعرفت أيضا فيما عرفت أنني اشعر ببرودة رياح ساخنة شرقية كانت تهب ولا تهب من اجلي، ولا من اجل أمواتي. ولمّا عرفت مكاني وجدتني نسيت اسمي.. لقد سرقوه في نفس اليوم الذي ماتت فيه ملامح ظلي قبل قدوم الليل.. وأدركت الآن والآن فقط أنني صرت امشي بلا ظل.. وربما بلا اسم.