لمى أكبر من الصندوق
إيمان شراب
لمى الصغيرة الرقيقة ، لمى الناعمة الملمس ، لمى المهذبة ، لمى الذكية ، كانت – ذات يوم – في الصف الأول الابتدائي .
كانت تسمع ذلك الشعار الذي يتردد في مدرستها : ادفع ريالا تنقذ فلسطينياً !
كانت صغيرة جدًّا ، ولكنها لم تكن تحب هذا الشعار ، فالفلسطينيون ليسوا فقراء ، وليسوا مساكين ، وليسوا في حاجة إلى ريالات أحد أو دراهمه !
هكذا كانت تقول في نفسها بلغتها التي تفهمها وحدها .
ربما لم يكن يعرف أحد أنها فلسطينية ، إلا أنها كانت ترى كل نظرة إليها إنما هي نظرة شفقة ، وكل ريال يدفع في ذلك الصندوق الخشبي المغلق – إلا من فتحة صغيرة أعلاه – هو ريال من أجلها هي ! فتشعر بنفسها أصغر من الصندوق ، فتكرهه وتتمنى لو تكسره
وتعيد ما فيه إلى أصحابه ، وتقول لهم شكرا لصدقاتكم ، فلست ولسنا في حاجة .
وكبرت لمى الصغيرة قليلا ، كبر عقلها و كبرت أحاسيسها - وربما أكبر من عمرها -.
صارت لمى في الصف الخامس ، وبينما هي في المدرسة ذات يوم ، تتحدث أحاديث الطفولة – هكذا يفترض – مع مثيلاتها ، إذ بإحداهن تسأل عن الجنسيات ....
لم تحب لمى السؤال ، ولم تحب أن يأتي عليها الدور لتقول أنا فلسطينية ، ولكن جاءها الدور لتقول : أنا فلسطينية ... قالتها وهي تمثل ابتسامة الثقة لتنتصر على مشاعرها الحقيقية ، مشاعر الضعف وعدم الثقة ، تنتابها عندما يكون الأمر ذا علاقة بفلسطين !
وحدث ما خشيته ، فها هي إحدى البنات ترد : أنت فلسطينية ؟ الفلسطينيون مشردون ليس لهم بلاد !
تسكت لمى وتغادر المكان ، فلم يعلمها أحد أن الفلسطينيين ليسوا مشردين بمزاجهم ، بل شردوا بخطة وتآمر وخديعة .. لم يعلمها أحد أن فلسطين وما حدث لفلسطين مسؤولية جميع المسلمين ،والله محاسبهم ! لم يعلمها أحد أن فلسطين جميلة والأقصى رائع.. لم يعلمها أحد أنها أرض الرباط ..أرض المحشر والمنشر.
وكبرت لمى أكثر ، وزارت فلسطين ....
فأحبت الناس هناك ، وسارت في الشوارع ورأسها مرفوعة ! رأسها مرفوعة ؟ في بلد محتل ؟ نعم ، فهي تعرف أنها صاحبة هذه البلاد ، لم يقل لها أحد أنت أجنبية !لم تدخل الإدارية عليها لتقول : لتقف الأجنبيات حتى نحصيهن فتتجه إليها النظرات وكأنها مخلوق من كوكب آخر!
أحبت المزارع ..أحبت شجرة الليمون وشجرة الزيتون في بيت جدتها .
بهرها المسجد الأقصى والصلاة فيه ! لم تشأ مغادرة ساحاته وقبابه ومحاريبه ومآثره ..
ثم ودّعت الأهل والأحباب ، ووداعهم هناك فريد ، صوره لا تنسى ! فهذه تبكي , وهذا يمسح دمعته حتى لا يراه أحد لأنه رجل ، وهؤلاء مجتمعون على باب الدار يلوحون بأيديهم حتى تختفي السيارة بالمغادرين .. أما جدة لمى فتظل تبكي أسبوعا قبل فراق أحبابها حتى ينتفخ وجهها كله !
صور لا تغادر عيني لمى ولا عقلها ولا قلبها .
ولكن هذه المرة تستطيع لمى أن تقول بثقة لكل من يسأل : أنا فلسطينية . بل وتأخذ دور المحامي المحترف ضد من يحاول الإساءة إلى فلسطين .
وتكبر لمى وتكبر ...
وتشاهد أخبار فلسطين على القنوات ... وتشاهد ما قبل آخر الأخبار : معركة الفرقان ! تشاهد رجال غزة ، ونساء غزة ، وأمهات غزة ، وأطفال غزة ...
فتذهل لكل هذا الغنى من الإرادة والثبات والعزة !
تسألها إحدى الأخوات : أستاذة لمى ، هل أنت من فلسطين ؟
فتقول بسمو كالنخلة ، وثبات كالجبل : نعم ، أنا من فلسطين التي أحيت الجهاد وقد أماته الجبناء ، أنا من فلسطين التي أعادت غزّتها العزّة للمسلمين أجمع ، أنا من فلسطين التي احتضنت المسجد الأقصى برحمة وقوة وقد فرط به المفرطون وتناسى مصيبته الأكثرون !
قالت الأخت : كتب في بعض الجرائد منذ فترة ، أن الفلسطينيين يمكنهم أن يحصلوا على الجنسية .
ضحكت لمى وقالت : الآن ، بعد أن عرفت قيمة أن أكون فلسطينية فلن أكون إلا فلسطينية ، بعد أن عرفت أنني أكبر من الصندوق ؟
ذلك الصندوق القديم ... فإن دفع العالم ريالات أو دراهم أو جنيهات أو دولارات ، ففي فلسطين دفعوا حياتهم وأبناءهم ومنازلهم !
الحمد لله لا زالت يدنا عليا .