آلاف الشبّان في فوهة بركان
آلاف الشبّان في فوهة بركان
جيلاني العبدلي: كاتب صحفي
لما دخلتُ ككل صباح مقهى العادة، وجلستُ منفردا في ناحية على اليمين بالنسبة للداخل، اقترب شابٌّ يستجلي إن كان الإمكان أن يجلس على مقربة منّي، فقلت: تفضّل سيّدي، لا مانع عندي.
وضع صاحبنا فنجان القهوة على الطاولة، قعد في تؤدة، وأشاح بوجهه عنّي. أخذ نفسا متتابعا من سيجارة أشعلها، ثم نفث في الجوّ سحابة داكنة، وأعاد الكرّة المرّة تلو المرّة.
حرّك مقعده مرّات قلقا كالجالس على الجمر، مُلتفتا يمينا ويسارا،ظاهر القلق، كثير الحنق، يُطرق آنا ثمّ يعلو بهامته أحيانا، يتأمل فنجانه،يأسره خياله، يخطّ على الطاولة ببنانه، ويقول: " لا حول ولا قوّة إلا بالله "، يتنهّد، يكاد لا يلقى الأنفاس، يلعن الوسواس الخنّاس وآكلي حقوق الناس، يصمت برهة، يرمقني خلسة، يهمّ بالقول لكنّ فاه يلتمّ، يفرك أصابعه ثم يأخذ في مصّ سيجارته مصّا، وسرعان ما يُلقي بها أرضا، يدوسها بالقدم دوسا ثم يميل بالرّأس إليّ معتذرا إن كان قد أحرجني، ثم يُضيف في وهن بصوت يملؤه الشجن، يفصّل قوله محتنقا، يشرح مأساته محتقنا.
يقول مستاء:
تخرّجتُ من الجامعة في السنة الخامسة والتّسعين من آخر عقد في الألف الثانية الهالكة، وقصدتُ في الحين سوق التشغيل، وطرقت أبواب وزارات ومكاتب عدّة، وفحصتُ الصحف وما عرضت من فرص للتشغيل، لكن هيهات.
كاتبتُ مسؤولين سامين عديدين أنشدُ حقّي في العمل، كي أحفظ ماء الوجه وأجتنب ذلّ المسألة، لكنّ الكلّ فلّ في عضدي، بل غلّ آلافا أمثالي، وظللتُ في العطل على مرّ الأحوال، أشكو الحاجة والفقر والعوز وجميع الأهوال، أقول ما ذنبي في بلدي وما خطئي كي يتنكّر لي وطني، وأصير إلى الأغوال؟
كم سمعتُ وعودا في خطابات؟ كم تلقّيتُ ورودا في انتخابات؟
فأين الأقوال من الأفعال؟ وأين وعودُ الساسة بالله وورودُ السادة؟
جاوزت العقد الثالث من عمري، وصرت ثقيلا كالجبل عبئا على العائلة.
قالت لي أمي المنهكة يوما:
" ابني، كبدي، افعل شيئا، أنجز أمرا، أُخرج للعمل، فيدك العليا خير من يدك السفلى".
وقال أبي الشيخ الهرم يدعمها بالقول الشائع:
"عينتك للنصارى ولا قعادك خسارة ".
وأضاف:
" لا شأن للرجل دون العمل، فاسع للعمل دون كلل أو ملل".
زرتُ المصانع والشركات في كل الأنحاء وحظائر الأشغال في كل الأرجاء، وقلّما ظفرتُ بأشقى الأعمال لبعض الأيام صرتُ بعدها إلى الإهمال.
ضاعت آمالي، وتهاوت أحلامي، وما عدتُ أقوى على البحث بلا معنى، وارتجّ عقلي، وانهدّ كياني، وصرتُ لا ألوي على شيء غير مغادرة الوطن إلى الأبد.
لكم فكّرتُ، وكم خطّطتُ للهرب، وكم حاولتُ وحاولتُ أن أركب قارب موت، وأسير على نهج أسلافي آلاف الشبان ممّن تاهوا في سراديب من قبلي، من نذروا الجسد للحيتان أو اجتازوا حدودا إلى المجهول بأمان، ولسان الحال يقول:
" سئمنا الرّكود كرهنا القعود وما عادت تنفعنا الوعود."
حاولت الرحيل إلى المجهول وما أفلحتُ، المالُ أعوزني، والعوزُ أقعدني، وسوءُ الحال أنهكني، وظللتُ إلى حدّ الساعة حبيس الأنفاس أجترّ مأساتي وأقول:
" حسبي الله ونعم الوكيلُ، وعاشت، عاشت وعودُ السادة والساسة".
أنهى صاحبنا بالغصّة قصّته، وأدمى قلبي بمحنته، وقال: معذرة إن كنتُ كدّرتُ مجلسك، واندفع كالسهم منصرفا، فنظر إليّ النادل كان يسترقُ منه السمع، وقال:
" لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله ".