اللُّعبة الثقافية
اللُّعبة الثقافية
محمد محمد البقاش - طنجة
جلستْ زَهْراء إلى صديقتها سَلْمى عِنْدَ حوضٍٍ به سمكة جميلة، ألوانها بديعة، وخطوطها رفيعة. تسبح في زجاجة بِلّوْرِيَّة شفّافة، شرعتْ تنظر إليها مُغْتبطةً، ثم قالت:
(( سلمى.. سلمى.. ما كان لهذه السمكة أن تسبح إلّا فوْق مِجِْمَرٍ دافئ )).
فردَّت عليها:
ـ إنَّكِ تمْزحين، أليس كذلك؟
ـ كلاّ. إن بيئتها البحر، والبحر تحته نار، وتحت النار ماء.
ـ هل هذا لغْز؟
ـ لا.
دخل في روْع سلمى جِدِّية صديقتها المجتهدة التي تتبادل معها الدّرجات في نتائج الامتحانات، تتفوَّق عليها مرّة، وتتفوّق عليها هي أخرى، لم تَفهم ما جاء على لسان زهْراء فبادرتها بالقول:
(( انتظريني حتى أعود من غرفة أبي )).
وانْدفعتْ إلى قلْبها.
ارتمتْ في حُضْن والدها وطبعتْ على خدّه قُبْلةً وديعةً وعانقتهُ وانحنت على أُذُنه تهمس إليه وقد توقَّف عن متابعة فصل من رواية: نساء مستعملات؛ لِيُصغي إليها، سألتْه عمّا تفوَّهت به زهْراء مُنْذ حين، فقال لها:
(( لا أتصوّر المِجْمر يا بُنيَّة إلا قلْب الأرض المنْصهِر بالنار؛ وهْو يقع تحت البحر، وباختراق الأرض حتىّ نهايتها ستَجِدين بَحْراً؛ لأن كوكبنا كُرويّ، وستجدين بعد البحر ما تجدينه الآن، فماذا تجدين بالنَّظر عبْر النافذة إلى الأعلى؟)).
فردّت عليه :
ـ أجد فضاءً.
ـ ـ فكذلك الأمر لو تمّ خرق الأرض، إنّ خرقها يمكن تشبيهه ببَطّيخة لها غِلافُُ أخضر تحته طبقة بَيْضاء، وتحت الطبقة البيضاء قلبُُ أحْمَر، فإذا اخترقتها من الوسط بأن غَرزْتِ فيها عوداً يابساً، أو إِبْرةً رفيعةً أو رُمْحًا حادّاً فستحصلين على ما شرحت لكِ، هل فهمتِ؟
ـ أجل، سيبدو قلْب البطّيخة بلوْن النار يحيط به غلاف أبيض هو بمثابة البحر الذي يغشاه السحاب، وغلاف أخضر هو بمثابة اليابسة.. فهل وُفِّقتُ في الشرح؟
ـ نعم وزيادة، والآن اخرجي إلى صديقتك وقولي لها إنَّكِ قد فهمتِ لعبتها الثقافية، قولي لها إنكِ تُشيرينَ بكلامكِ عن البحر الذي تحته نار إلى حديث النبي محمد عليه السلام (1)، قومي إليها وأفحميها برياضة ذهنية من الأدب المَمْدَري (2) وثَقِّفيها به فنِّيا وستنْجَحين وستَجْعلين منها مَمْدَرِيَّةً (3) مثلكِ، هيّا قومي، ثمّ أخبريني.
عادت إلى زهراء وكأن جسمها محمول على قدمين تمشيان في القمر رغم اكْتنازها، عادت منشرحة تتأبَّط حبورها، وتقول لها: ((غَلبْتِني هذه المرة، فانتظري دوري )).
مدّت يدها إلى قاطع التيّار الكهربائي وضغطت عليه فسادت ظلمة لفتت انتباه من في الدار فأَنْطقتْ ألسنتهم مُسْتفسرة، ولكنّ سلمى توجّهت إلى زهراء فقالت لها:
(( ما ذا تشاهدين في حوضي الصغير؟ )).
فردت عليها:
ـ لا شيء.
ـ إذنْ انْطلَتْ عليكِ لعبتي الثقافية.
ـ لا، لم تنطلِ عليَّ لعبتكِ الثّقافية.
ـ وماذا فهمتِ؟
ـ إنكِ تَطْلبين إضاءةً من سمكتِكِ، فلو صبرْتِ قليلا ربما صَنَعَتْه لنا سمكتكِ الجميلة.
اسْتدْعتْ فوتونات المصباح وهي تبتسم وتقول لصديقتها (( لقد غلبتكِ ))، فردت عليها:
ـ كلاّ.
ـ بل هزمتكِ.
ـ كيف؟
ـ ألم تطلبي الضَّوْء من سمكتي؟
ـ نعم، ولكنكِ تسرَّعتِ فالأمر يحتاج لوقت أكثر.
ـ ولكنك جانبتِ الصواب.
ـ كيف؟
ـ سمكتي يا شاطرة لا تصنع الضوء البارد (4)، فليست هي من القَشْرِيات، وليست هي حَبّاراً، أو سمكاً هُلامياً..
انخرطتا في ضحكٍ وقد أشْبَكتا أصابعهما معا بعدما نزعت سلمى من بنْصرها خاتَما من أكثر المعادن توصيلا للكهرباء (5) وشرعتا تدوران؛ كلتاهما تقوم بدور خاصٍّ بها وتنشدان في تناوب:
ـ يجب أن ننْتهي... يجب أن ننْتهي
وتردّ عليها صديقتها:
ـ مِنْ ضَياع وقْتنا ... من ضَياع وقْتنا.
ـ يجب أن يُجْدي... يجب أن يُجْدي.
ـ كلّ عملنا ... كلّ عملنا.
ـ يجب أن نقْتني... يجب أن نقْتني
ـ عِلْماً ينْفعنا... علماً ينْفعنا.
ـ يجب أن نَنْضوي ... يجب أن نَنْضوي.
ـ لجِوار ربِّنا ... لجِوار ربِّنا.
ـ يجب أن نعْتني... يجب أن نعْتني.
ـ بتثْقيف عقْلنا ... بتثقيف عقلنا.
اندفع أبوها من غرفته وقد أخَذَتْه أنشودَتهما الجميلة ليَجِدَ أمّ سلمى مندفعةً هي الأخرى من المطبخ، وشقيقتها الكبرى تهرع من غرفتها، وثلاثيّ الصِّبْغيّ (6) شقيقها يركض في سعادة فأنْشبوا أيديهم وشابكوا أصابعهم واندفعت سلمى للوسط فأحاطوا بها إحاطة السوار بالمِعْصم، وشرعوا يدورون حولها كتوابع الشمس، هم يردّدون جماعة:
(( يجب أن ننْتَهي... يجب أن ننْتهي )).
وسلمى بمفردها:
(( من ضياع وقْتنا ... من ضياع وقْتنا ))
ـ يجب أن يُجْدي... يجب أن يُجْدي
ـ كلُّ عملنا ... كل عملنا...
بينما هم يرقصون رقصات لا عنوان لها رنّ جرس الدار فتقدّم هيثم لفتح الباب.
قدمت أسرة عليّ لزيارة رحِمها، وما إن ملأت فِناء الدار حتى اندفع أطفالها يطلبون مكانتهم للرقص والنشيد، ولُطْفاً لُطفاً انسلّ الكبار وتُرك الصغار في نشوتهم.. رقصوا حتى جهدوا فتوقفوا يرتاحون؛ كلّ إلى جوار أمه أو أبيه، بَدُنَتِِ الدّار وتبدّل نشاطها في حميمِيَّة لا يطْعَمُها إلا المُحِبّ..
نادى عليّ على أبناء أخته واحدا واحدا يلاطفهم ويتودّد إليهم كعادته، ولكنّ كوثر عزفتْ عن تلْبية دعوته على غير عادتها، نظر إليها فعرف في وجهها الكآبة.. نهض إليها، ثم حملها بين ذراعيْه وقد أشرفت على الثانية عشرة من عمرها حتى أتى بها مقعده وهو يمرِّر يده على شعرها، ويُربِّت على كتفها أملا في زوال همِّها، وذهاب حزنها، ولكنها لم تنقلب إلى الحبور، ولم تغطس في السرور وقد كانت غاطسة فيه حين كانت تنشد مع أبناء وبنات خالها. حفل عليّ بحالها وأقسم لها إلا أن تخبره بما تعاني، فقالت: ((ليس بي من بأْس يا خالو )).
ـ ولكنَّكِ بئيسة.
ـ لا، لست كذلك.
ـ بل هو كذلك، فما الخَطْب؟
ـ لا، لا شيء، فقط لم أستطع محو صورة من ذاكرتي.
ـ أيّ صورة؟
ـ صورة بِنْتٍ متشرِّدة.
ـ بنت متشرِّدة؟ أيّ زمن هذا الذي تضيع فيه البنت وهي أجلّ وأكْرم!
ـ أجل، متشرِّدة.
ـ كيف؟ احكِ لنا ما شاهدْتِ.(( بدت ملاكا ولسان حالها يقول: ((سيّان عندي ما بين الحياة والموت. سيّان عندي ما بين الحزن والفرح، وما بين الجوع والشبع، تحيى حياتها في سقَطٍ يتلوه سقَط، يظنّون بها الظنون. آهٍ من قسوةٍ تُحرقني، تُردِّد. وآهٍ على ظلم بيئتي ومجتمعي، تقول. صبيّة شقراء تشرّدت وهْي ما تزال بَلَحا، مليحة سُلِبت منها حياتها في شوارع طنجة الجزيرة، لا تنحدر من أمّ بوسِْنيَّة مُغْتصَبة، تَقْلب وتُقلِّب جرادل الزِّبالة كمِعَز التشابوري Chapuri (7) باحثة عن الشِّياطة الملفوظة، تستعطي لتشمّ معجون الهلْوسة، وتنضج في مزبلة رُفْقة رفيق يحمل في عموده الفِقري خمسين فَقْرة (8)، لم تعد مزبلتها بدينة كما كانت على عهد طنجة النصرانية، تغدو وتروح فوّاحة كحشرة طويل القوائم (9)؛ حالها عارٍ وأهل طنجة أعْرى، تدينهم ببراءتها، وتتّهمهم بصغرها، كما تنبِّههم بعطْل نُخاع عظْمها (10) إلى حاجتها ولا مجيب.. غابت عني قليلا، ثم ظهرت زمن التمثيلية البليدة للرئيس الأبْلد تحمل وليدها وعمرها اثنتا عشْرة سنة، يتمنّى وقوعها في قبضته أمير الظلام (11) لتُذْبح أمامه وُيشْرب من دمها تقرُّبا إليه في معْبد عَبَدَة الشيطان. طفقتْ ترقب طلعةً تحمل على وحشتها بالأنس؛ لتروي ظمأها من العزلة، فعزَّت عليها. يستوي ليلها على عرشه، ثم يستدعي حراس السلطنة؛ ليأمرهم بذبح اليأس منكّسا حتى لا يبزغ فجر معطوب. ترجّلت في عليائها تمشي يقدم ثابتة، ثم علتْ واعْتلت في موسم حصاد الوهم، فعاشت عمرا مباركا ولم تزل وهْي تسخر من مجتمعها وتحْقِره. هذا ما قلَب سعادتي يا خالو..
ـ جميل منك هذا الإحساس يا ابنتي، جميل بالمرء أن يحس بالآخر، بوركتِ، وبورك من ربّاك بالقيم الرفيعة، ونشّأك على الخصال الحميدة..
(1) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غازٍ في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً ". أخرجه أبو داود في سننه. هذا الحديث به إعجاز علمي. فالنبي يخبر بوجود نار تحت البحر. ومعلوم أن البحر هو كل الأرض تقريـبا إذ يغطـي الماء 7 / 10 من سطح الأرض، و قوله: وتحت النار بحرا لا يعني سوى نفس البحر، ولكن من الجهة الأخرى وهو إشارة إلى كروية الأرض، وإذا أخذت الأرض من أي جهة فلن تحصل إلا على ما ستحصل عليه من الجهة الأخرى، خذها من القطب الشمالي أو من القطب الجنوبي، خذها من الغرب أو من الشرق، خذها من جميع أطرافها وغص فيها ودائما نحو مركز الدائرة فستخرج إلى الجهة الأخرى، ومعنى ذلك أنك ستخوض في البحر مرة ثانية إن أنت خرقتها؛ والبحر يقع فوق النار دائما.
(2) الأدب المَمْدَِري نسبة إلى جنس أدبي جديد ظهر في روايتي : نساء مستعملات، وهي لا تزال مخطوطا، قعّدت له في كتابي: النظرية المَمْدَرية (في الفكر والأدب والفلسفة ) وهو لا يزال مخطوطا أيضا.
الأدب المَمْدَري يقوم على مكونين اثنين، ويستهدف غاية مزدوجة، المكونان الاثنان هما : أولا: التثقيف الفني. ثانيا: الرياضة الذهنية. والغاية المزدوجة هي: أولا: المتعة العاطفية ويشترك فيها مع كل الآداب عربية وعجمية.
ثانيا: المتعة الذهنية وينفرد بها عن غيره.
(3) المَمْدَرية محاكاة للكون والذرة والخلية، وهي كلمة مركبة من كلمتين هما: الامتداد والدائرة ومعناها امتداد الأجرام الفكرية والفلسفية والأدبية في كون صغير يصنعه المفكر والفيلسوف والمبدع بإبداعه يحاكي به حركة الكون والذرة والخلية.
(4) الضوء البارد ضوء كيميائي تصنعه الأسماك في البحر والفطريات والإسفنج.. كما تصنعه حشرات وديدان وطحالب وقشريات برية مثل الدودة ألفية الأرجل، وأم أربعة وأربعين، والحلزون..
(5) أكثر المعادن توصيلا للكهرباء هو معدن الفضة.
(6) ثلاثي الصبغي أو متلازمة دارون فهو يحتوي في كل خلية من خلاياه على 47 صبغيا، ( 23 يتوارثها من أحد الأبوين، و24 صبغيا من الأب الآخر ) وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن الصبغي 21 الزائد يأتي عادة من الأم؛ خاصة إذا حدث حملها بالجنين بعد سن 40، وهكذا نفهم أن بويضة الأم التي استخدمت في اللقاح حوت 24 صبغيا عوض 23، والصبغي الزائد هو الصبغي رقم: 21
(7) اسم إسباني على عهد طنجة الدولية وبعده في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان يسكن منطقة الدرادب في طنجة، كانت له معز يسوقها ليحلبها للساكنة في الأحياء والأزقة في الصباح الباكر.
(8) الرفيق الذي يتكون عموده الفقري من خمسين فقرة هو الحيوان القط.span>
(9(9) حشرة طويل القوائم ليست من العناكب رغم شبهها بها، لها قوائم طويلة تفرز رائحة كريهة. تستخدم قوائمها أيضا في اللسع والذوق والشم. لها جهاز لكشف الأعداء، وإذا هوجمت وأحست بالخطر تقطع قدمها وتتركه للعدو ليتلهى به وهي مندفعة للتخفي والنجاة..
(10) نخاع العظم يكوِّن خلايا الدم الحمراء فإذا اعْتطب النخاع العظمي تعطلت وظيفته، وبالتالي قلّت لها الخلايا الحمراء في الدم، وعندها يصاب الإنسان بفقر الدم فيظهر على وجهه الاصفرار. والجملة يكنى بها عن الخوف والرعب الذييعطي نفس النتيجة.
(11) أمير الظلام هو إيغور أمير الشر، وهو زعيم طائفة عبدة الشيطان من أصل صربي يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، يعتمدون على الإنجيل الأسود الذي ظهر في سنة 1966م وفيه في الإصحاح الثامن طقوس شيطانية. ففي القدّاس الأحمر الذي يقيمونه في تستّر عن أعين السلطة والناس يذبحون هرا، ويبحثون عن فتاة في الثالثة عشرة من عمرها يخطفونها أو يحتالون عليها، ثم يستقدمونها إلى معبدهم فتُذبح أمامهم ويُشرب من دمها تقربا إلى أمير الظلام