ريحانتي
ريحانتي
شريف قاسم
كعادتها في ضُحى كلِّ يوم ... وضعت صغيرَها الوحيد ( فاديا ) الذي لم يتجاوز السابعة من عمره في حضنِها ، لتضمَّه إلى صدرها الحنون ، وتقبلَه وتداعبه وتغني له :
سـيـأتـي الغائبُ وأبـشـرْ أنـتَ يـاولدي فـخـالـدُ لـم يزلْ شهمًا بُـنَـيَّ أبـوكَ لايـنـسى فـيـامولايَ ... وارحمْنا | الغاليفـمـا ( يـافـادِ ) ولا تـحـزنْ لِـمـا كانا وبـالـتـحـنـانِ أولانا بـرغـمِ الـبـعـدِ لقيانا وخفِّفْ ــ ربِّ ــ بلوانا | جافانا
ولا يقطعُ عليها مشوار أنشودتها إلا صوتُ طرقات البابِ بيدِ جارتها الوفية الحانية ( أُم معقل ) . قبَّلتْ صغيرها وتركته جانبا ، وهرعت شطر البابِ تمسح من دموعٍ تحدَّرت بصمتٍ على وجنتيها ، لتجدَ جارتَها تلقي عليها تحيتها النَّدية المعهودة ، فرحَّبتْ بها وأنزلتها مكانتها في قلبها قبل أن تأخذ مكانها المعهود أيضا في الغرفة ، فقد كانت تروِّح عنها الكثير من آثار المعاناة ، وتقرِّب لها ما بّعُدَ من الأمل المرجو ، فترتاح نفسُها ، ويطمئن قلبُها ، وتغشى السكينةُ أحناءَها المتأججة بنار غربتها عن الأهل ، وبجمر معاناتها من تصرفات زوجها الذي جرَّه رفاقُ السوءِ إلى مستنقعات المخدرات ، التي أودعته السجن عندما ... ؟!
كيف حالُك اليوم ( يا أُم فادي ) ؟ سؤال يتكرر في كلِّ زيارة ، ولكنه ممزوج بالجديد من حرارة المودة والوفاء ، فيأتي جديدا محمولا على أجنحة ابتسامة ( أُم معقل ) ، ويأتي مشرقا رغم ظلمة الأكدار التي تحدق ( بأُم فادي ) على مدى أكثر من عام . أجابت : بخير من الله يأُختي ، وصدقيني ( ياأُم معقل ) حين أقول يا أختي فإني أعني واللهِ ما أقول ، فأنت عوَّضتني بحنانك ومودتك و وفائك عن حنان ومودة أمي وأخواتي رغم بعد المسافات التي بيني وبينهم . ضمَّتْها ( أُم معقل ) وقالت : لاتقولي هذا يا أختي ، فوالله إنك لأختي ، بل لم أعدْ أزور أمي وأخواتي اللواتي يعشْن معي في بلدتنا هذه بقدر ما أزورُك ، والحمد لله الذي أكرمني بمعرفتك ، وأنت الطاهرة الذاكرة لله ، القارئة للقرآن ، الصابرة على قضاء الله ، البعيدة عن مجالس الغيبة والنميمة ... ومن أين لي بمثلك ، والله إني لأُحبُّك في الله ، وأسأل الله تعالى أن يفرج كربَك ، ويهيئ أسباب الفرج لزوجك ، ويعود إلى بيته مباركا معافى بإذن الله . ردَّت ( أُم معقل ) : يعود إلى بيته ... وما الفائدة إذا عاد وهو يحمل عادته السيئة ، ويملأ جيبَه من الحبوب المخدرة القبيحة ، ألتعود ليالي الرعب والنكد التي كنتُ أُعاني منها !!! ردَّت ( أم معقل )) : لا . لاتقولي هذا ( يا أُم فادي ) ، ثقي بالله ، واسأليه أن يتوب على خالد وأمثاله من المسلمين ، وأن يهيئ له أسباب الخلاص من هذه الورطة ، فالكثير من أمثاله دخلوا أسواق الموبقات والمخدرات ، ثمَّ تابوا وأصلح اللهُ شأنَهم ، وصاروا من أفضل الناس ، وليس ببعيد عن أُذُنيك خبرُ جارِنا ( أبي سعد ) الذي طارت أخبارُ مزالقه في الآفاق كما تعلمين ، وهو اليوم كما أخبرني ( أبو معقل ) من رواد الصف الأول في جماعة مسجد الحي المجاور . وعاد من أفضل معلمي المدرسة قدرةً وإخلاصا . تنهدت ( أُمُّ فادي ) وقالت : صحيح ... صحيح عسى اللهُ أن يجعل لي فرجا ومخرجا ، ويخرج ( خالدًا ) من السجن معافى تائبًا ، ولعل الله ينهي حالةَ بثِّي وحزني التي لايعلم بها إلا الله ثمَّ أنت ( يا أُمَّ معقل ) وبكت ، فعانقتها جارتُها الودود بحرارة خفَّفتْ عنها الكثير من المعاناة .
ويطرقُ بابُ الدارِ مرة أخرى ، وما أقل طرق بابِ ( أبي فادي ) بعد غيابه ، وإذا بصوت زوجة أخي خالد خلف الباب :فادي ... فادي افتح الباب لعمك يافادي . وتفتح الباب ، استأذنت ( أُمُّ معقل ) فشكرتها جارتُها قائلةً : عودي ... عودي ... أجابتْها : أجل ، لستُ ببعيدة مبتسمةً لها مرددةً : سأعود . وتركتْ الضيفين وقد جاءا من مكان بعيد في زيارتهما المعتادة في عطلة الأسبوع .اطمأن الأخ على أسرة أخيه ، وخرج ومعه ( فادي ) لشراء بعض حاجات المنزل التي اعتاد أن يشتريها كلَّ أسبوع . واختلت زوجةُ الأخ بأخت زوجها ، ليتجاذبا أطراف الحديث ، وليسوقهما إلى ما قبل خروج خالد من دائرة الطهارة والمسؤولية إلى مستنقع الأذى والشرور ، فأكَّدت لها ( أُمُّ فادي ) وفاء زوجها ومودته لها ، وأنهما كانا على أحسن حال من السعادة والاستقرار ، وأنها عاشت لزوجِها بكل حياتها ، وأنها كانت الحافظة له في نفسها وماله ، وأنها ماتبرجت ولا لبست محاسن ثيابِها وجميل حليها إلا له ، ولا صامت تطوعا إلا بإذنه ، وإني والله برغم ماجرى لن أنسى مودته لي وإكرامه وحسن عشرته قبل أن يجره الرفاقُ المجرمون في حقه وحق أنفسِهم . لقد كان يسرع لإرضائي إن حصل سوء تفاهم ، وكان يردد قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( لايفرك مؤمنٌ مومنةً ، إن كره منها خُلُقًا رضي منها خُلُقًا آخر ) ولا أنسى مباسطته لي بعد غضب وقولَه : عندك ألفُ خُلُقٍ طيبٍ لايكدرها أبدا زعلٌ طارئٌ ، فنضحك وننسى ماكان . تبسمت زوجةُ أخيها ، وعانقتها وقالت : عسى اللهُ أن يقرِّبَ الفرجَ ، ويأتيك ( أبو فادي ) فتطيب الليالي وتعود الأيام أحسن مما كانت . وأن يبعد عنه رفاقَ السوء ، ويرزقه العزيمة والهمة ، قاطعتْها ( أُمُّ فادي ) قائلةً : آمين ... آمين لعلَّ الله ... إنَّ ربي لطيف عليم . كم كنتُ أتمنًَّى أن تسبق همتُه في الخير ، وأن يفوز بأسباب رضوان الله ، وينأى عن مزالق الشيطان ، ويحمي نفسَه وبيتَه وصغيرَه الوحيد فادي ، فادي الذي لم يستوعب مايدور حوله ، ولا أرى إلا عينيه الحائرتين بين أولاد الجيران الذين يصطحبون آباءَهم في الليل وفي النهار .قضى أخوها وزوجته لديها يومي العطلة الأسبوعية ، ثمَّ غادرا ، لتغلقَ البابَ ( أُمُّ فادي ) خلفهما ، وتقر في بيتها تكلؤُها عنايةُ الله عزَّ وجلَّ . ترعى طفلها وترجو ربَّها ، وتستأنس برعاية الله لها .
وفي أواخر الثلث الأخير من الليل ارتفع صوت أذان الفجر من مسجد الحيِّ ، فهبت كعادتها من فراشها ، وتوضأت لتؤدي صلاة الصبح ، ويقف إلى جانبها طفلُها يعمل كما تعمل والدتُه ، ويرفع يديه إلى السماء كما ترفع يديها إلى الله طالبة منه العون والفرج . ثم تفتح كتاب الله لتقرأ جزءَها اليومي ، وربما أغلقت مصحفَها على مكان ماوصلت إليه في تلاوتها لتستمع إلى مكبِّر الصوت لقراءة الإمام وهو يتلو قوله تعالى : ( وقَرْنَ في بيوتِكُنَّ ، ولا تبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهلية الأولى ، وأقمْنَ الصلاةَ ، وآتين الزكاة ، وأطعْنَ اللهَ ورسولَه ... ) 33/ الأحزاب ، فتهز رأسَها : أنْ نعم ... ثمَّ تتابع قراءتها في مصحفها ، ولقد كان ( فادي ) يسألها أسئلة غريبة عجيبة ، فترد عليه بحسب علمها ، وعلى قدر فهم صغيرِها ، وبما يمكن أن يقنعه . سألها مرة لماذا لايصلي أبي في المسجد ؟ قالت : إنَّ أباك الآن غير موجود ، وعند عودته إلينا سيصلي في المسجد ــ إن شاء الله ــ وردَّ الصغير من خلال وعيه بما يسمع ويعايش : إيش يعمل في السجن ؟ قالت : يأكل كما نأكل ويشرب وينام . قال فادي : ويصلي في المسجد . قالت : نعم يصلي في مسجد السجن . قال : أريد أن أراه يصلي في هذا المسجد ــ وأشار حيثُ مسجد الحي ــ مثل آباء ... وراح يعدد أسماء بعض أولاد الجيران ، ألم أقلْ لك :
سيأتي الغائبُ الغالي فما ( يافادِ ) جافانا
وأبشرْ أنتَ يا ولدي ولا تحزنْ لِما كانا
هيَّا قُمْ معي لنجهز طعام الإفطار يافادي . وتمر الأيامُ ثقيلة ، تتخللها ومضاتُ أُنس حين دخول جارتها عليها ،وحين قدوم أحد من أهلها ، وذات يوم طُرقَ بابُ الدار في ساعةٍ متأخرة من الليل ، استيقظتْ فزعةً ، يارب ... يارب ... ليس من طارق في مثل هذه الساعة . الباب محكم الإغلاق ، الجيران يحيطون بالبيت من كل الجهات ، وكلهم أولو دين وأخلاق ومروءة ، وازداد الطرقُ على الباب ، مع صوت خافت ينادي : فادي ... فادي أنا أبوك خالد افتح الباب يابني ، سمعت صوتَ زوجها الذي لاتنكره ، استجمعت قواها وإيمانها بالله ، وفتحت الباب وإذا بزوجها الغائب قد عاد ، ولم يعرفا كيف انسل من بينهما ولدهما ( فادي ) وتعلق بأبيه يعانقه و يقبله ، ويبادله الأب بنفس الشوق والمودة ، واختُتمتْ صفحةُ القلق والألم والخوف ، وعادت الأيام كما بدأت على مافي بيوت المسلمين من أمن وسكينة ومحبة و وئام .
وأخبار الخير تنشرها الأنفاس إذ فصلتْ عيرُ الفرج ، وتجاوزت ظلمات الأكدار . واجتمع الجيران في غرفة الضيوف يهنئون ( أبا فادي ) بسلامة العودة ، ويدعون له بالخير والتوفيق ، ولم يزل الأهل والأصحاب يتوافدون مسلمين و مهنئين ، وكانت ( أُم فادي ) تخشى من عودة رفاق السوء من شياطين الإنس ، وتدعو الله سبحانه أن يقي زوجَها من شرورهم ، ويهيئ له أسباب توبة نصوح . ويعود ( خالد ) معلما إلى المدرسة كما كان ، وعينا زوجته تتعلقان بأطياف الأمل في إقلاعه عن ذميم العادات ، وقبيح الصفات . وفي يوم الجمعة استيقظ ( أبو فادي ) من نومة القيلولة ، وينظر حوله فلا يجد إلا زوجته ، وأما ( فادي ) فغير موجود ، نادى زوجته : أين فادي ؟ جلست تمسح عن عينيها آثار النوم ، وتنظر هنا وهناك ، وهبت إلى غرف المنزل ، فلم تجد صغيرها ، لعله في الشارع ياخالد ... خرج مسرعا ينادي فادي ... فادي ... ولكن لاأحد يجيب ، أين صغيرُنا ؟ ركض باتجاه المدرسة ملهوفا ، وعرَّج شطر دار صديقه ( أبي الهيثم ) مضطربا ، وعاود السعي باتجاه السوق حيث كان يصطحب ولدَه معه بعض الأحيان ، لم يجد أحدا ، دارت في رأسه الظنون التي تدور في رأس زوجته المتلهفة بين جدران البيت مع جارتها ( أم معقل ) ، طال البحث ساعة ، وساعة ... وخارت قوى خالد ، وكادت عزيمته أن تخور ، ويرتفع صوت أذان العصرو الذي ربما لايعني(أبا فادي ) فهو ليس من رواد المساجد ولا من أهل الصلاة . تابع بحثَه دون جدوى ، وعزم أن يخبر الشرطة للمساعدة ، وفي طريق عودته إلى المخفر لمح دراجة فادي الهوائية على باب مسجد الحيِّ ، فطار قلبُه فرحا ، واندفع نحو المسجد لعل ولده جاء ليشرب الماء أو يلعب مع الأولاد في ظل أشجار المسجد ، كانت باحة المسجد خالية من الصغار ، دخل بلا وعي حرم المسجد ، وكان المصلون يتحلقون حول الشيخ يستمعون لدرسه الأسبوعي يوم الجمعة بعد صلاة العصر ، فأبصر ولده جالسا في الحلقة يصغي إلى كلمات الشيخ ، فلم يحر الأب كلاما ، وذُهل ، وخجل ، وأُلجمَ ، وجلس إلى جانب صغيره لايعرف ماذا يقول . التفت الصغير فجأة فرأى أباه ، فألقى بنفسِه عليه وهو ينادي أبي أبي ... استرعى صوتُ الطفل ومنظرُ معانقته لوالده انتباهَ الحاضرين ، ونظر الشيخ تجاه الرجل يريد أن يعرف ماذا جرى . فوقف خالد وقال : لاتعجبوا يا إخواني هذا ولدي فادي افتقدته ، وبحثت عنه لأكثر من ساعتين في هذه القيلولة ، وخفتُ أن يكون قد حدث له أمرٌ ، ثمَّ وجدته هنا معكم ، في هذا المسجد المبارك ، وكان الأولى بي أن أكون من رواده ومن أهل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والمخدرات ، ولقد سبقني صغيري فلذةُ كبدي إليه ، بل قادني إليه بقدر الله . وإني أُشهدكم في هذه الساعة المباركة على التوبة ، وعلى هجري لكل ماحرَّم الله . وقف الشيخ وهنَّأ خالدًا على توبته ، وعلى وجود ولده في بيت الله ، وقال : هذا ياأخي ريحانتك في الدنيا وأسأل الله أن يكون خيرا لك في آخرتك ، قال خالد : جزاك الله خيرا ، وأثابك ورفع قدْرَكَ . وحمل الأبُ ريحانته على صدره يضمُّه إليه ويقبله ويدعو له ، ويعود إلى البيت ليجد الأم مع بعض الجارات يتفطر قلبُها أسى وخوفا على صغيرِها ، وما أن رأيْنَه حتى انهالت التهاني ثانية على ( أُم فادي ) بعودة الوالد والولد ، وانصرفْنَ إلى بيوتهن ، لتجد ( أُمُّ فادي ) نفسَها بين زوج تائبٍ نادم على مافرَّط في حقها وحق نفسه ، وبين صغيرها الذي تلمح بين عينيه علائم النجابة والذكاء ، والذي وقف على منضدة في وسط الغرفة ليردد :
فـخـالدُ لم يزلْ شهمًا بُـنَـيَّ أبـوك لاينسَى فيامولايَ ... وارحمْنا | وبـالـخـيراتِ بـرغـمِ الـبعدِ لُقيانا وخفِّفْ ـ ربِّ ـ بلوانا | أولانا
ويقفز ( فادي) من على المنضدة ليجمع بيديه الغضتين أباه وأُمه ،و لتبدأ رحلة السعادة المنزلية من جديد .