عيون بهية أضاعت الهوية

عصام أبو فرحة

[email protected]

كم هو طويل ذلك الطريق الواصل بين موقف الباصات وبين المدرسة , وكم هي مزعجة تلك الريح الباردة الجافة التي تهب من الشرق , ماذا كان سيحدث لو ان المدارس تفتح ابوابها في الساعة العاشرة ؟  كنت امشي تلك الطريق يوميا ذهابا وايابا من موقف باصات قريتنا الى مدرستي في المدينة , لم يكن رفاقي من طلاب الصف العاشر يحسون بطول الطريق لانهم كانوا يمشون في جماعات يتمازحون ويتحدثون فتقصر الطريق , اما انا فكنت ازوغ عن انظارهم بمجرد نزولنا من الباص لكي امشي  الطريق وحيدا , لا اريد ان يزعجني احدهم بكلمة ابو بنظرة في تلك اللحظة التي انتظرها طوال اليوم , تلك اللحظة التي تظهر بها ذات الشعر الاشقر .

نظرت الى الساعة انها السابعة والنصف , وهاهو المفترق امامي المفترق الذي يجب ان انعطف منه الى جهة اليمين للوصول الى مدرستي , كانت تاتي من الجهة المقابلة , يجب علي ان ابطء السير قليلا انه وقتها , هاهي , نعم انها هي , اقتربت مني , يداعب الريح خصلات شعرها الاشقر وتعطي برودته لوجنتيها لون احمر , مريولها الاخضر وبنطالها الاسود يعجزان عن اخفاء ملامح الانوثة المتفجرة في جسدها  , عرفت منذ ذلك الحين ما هو تعريف الانوثة .

 اشتبكت الانظار ’ اهي تبتسم لي ام ان ملامح وجهها توحي انها مبتسمة ؟ اظنها تبتسم لي , لم يكن ذلك اللقاء اليومي يستمر اكثر من دقيقة واحدة , ولكنه كان يشغلني بقية اليوم , كنت انتظر تلك اللحظات بفارغ الصبر , كنت اكره يوم العطلة لانه يخلو من تلك اللحظة .

   كان عمري ستة عشر عاما , احسست بصراع قوي في داخلي صراع بين الطفل والرجل , الطفل الذي يريد ان يحتفظ بي ويعز عليه فراقي وبين الرجل الذي يريد ان ينقلني معه الى عالم الرجولة , احيانا كنت احكم بهية الشقراء التي تسكن داخلي بينهم , ( لم اكن اعرف اسمها ولكن طلتها البهية اوحت لي باسم بهية ) احيانا كنت اقول من الافضل ان ابقا طفلا فلن يحاسبني احد على نظراتي لبهية وفي احيان اخرى اقول لا , يجب ان اصبح رجلا لانال اعجابها , استمر هذا الصراع فترة بدون حسم , وفي النهاية جاء العامل الحاسم , نعم انها الهوية , حصلت على بطاقة هوية , ايقنت انني دخلت في مرحلة الرجولة لا محالة , فالطفل لا يحمل بطاقة هوية .

كنت سعيدا بالبطاقة , وكنت سعيدا بقدوم الربيع , فالبرد القارس انحسر ولم تعد الحاجة ملحة لارتداء جاكيت , اصبح الان بامكاني ارتداء قميص ابيض ووضع الهوية في جيبه لكي تراها بهية , واستمرت لقائاتنا اليومية , صرت احس ان اعجابها ازداد بي وهويتي تبان من جيب القميص .

السنة الدراسية تقارب على الانتهاء لا تقدم في العلاقة , لا جديد , نظرات متبادلة وابتسامة واضخة مني وابتسامة غامضة منها , ما العمل ؟ يجب ان افعل شيء , لا بد من كسر ذلك الجمود , وبعد تفكير وبعد صولات وجولات اهتديت الى الطريقة , الهوية نعم الهوية , تلك االبطاقة التي اشعرتني بالنقلة النوعية من الطفولة الى الرجولة لا بد انها قادرة على مساعدتي مع بعض التحايل واستعمال العقل , غدا سانفذ الخطة , ولماذا غدا ؟ اليوم بعد انتهاء الدوام في المدرسة .

انقضى ذلك اليوم الطويل بصعوبة احسست ان المعلمين اعدائي وان الساعة تعمل ضدي ولكنه في النهاية انقضى , انا الان اقف على المفرق انتظر قدومها , كل شيء جاهز , قدومها يعني ساعة الصفر , نعم انها فعلا ساعة الصفر هاهي تاتي من بعيد , بصعوبة بالغة تماسكت , انها تقترب , هي الان على بعد بضعة امتار مني , حاولت واجتهدت ان اجعلها تشعر باني لا اراها , مشيت امامها , اظنها لا تحس انني اتعمد المشي امامها وهذا ما اريده ,  كل شيء يمشي كما هو مرسوم , اخذنا بالابتعاد عن مركز المدينة وحركة المارة بدات تختفي شيئا فشيئا , انه الوقت المناسب , احسست بيدي ترتجف وهي تمتد الى جيبي وتخرج الهوية , القيت الهوية ارضا بحركة اظن انني نجحت بان تبدو غير مقصودة , تابعت المسير , النظر الى الخلف ممنوع يجب ان تقتنع بهية بان الهوية سقطت مني من غير قصد , اظنها الان حملتها وهي تستعد لتنادي علي , هنالك احد قادم , لم تناديني ,  كم هي ذكية , تنتظر ان يخلو الشارع من المارة , ستناديني , ستعطيني الهوية سترتسم البسمات على شفتانا , حينها لن ابقي في داخلي أي عبارة للشكر , سوف تشعر من كلامي كم انا مهذب ولطيف , وستشعرها نظراتي كم انا معجب بها , لن ابذل مجهودا كبيرا في التعرف عليها واخذ موعد للقاء , فهي بانتظار هذه الفرصة مثلي تماما , من الممكن ان يكون بيتها في هذه المنطقة , وماذا لو رأتنا امها ؟ الامر طبيعي فهنالك مبرر لوقوفنا ولحديثنا , وربما تطور الامر وساقني الموقف للتعرف الى امها , دارت برأسي الكثير من الافكار بعضها كان يسعدني وبعضها كان يخيفني  ,  ولكن لم العجلة ؟ ستناديني الان ونرى ماذا سيحدث , لا احد في الشارع الوقت مناسب , هيا اسمعيني صوتك , اقتربي , انها فرصتنا , لا تضيعيها , نظرتي الى الخلف ممنوعة وفقا للخطة الموضوعة ,  اطرقت سمعي ربما انها تناديني , لا اسمع سوى صوت خبط حذائي على الاسفلت , لا مناص ولا مفر من نظرة خاطفة الى الوراء , ويا لهول النظرة , لم ارى الا طريقا فارغا متعرجا  خاليا كانه يضحك ساخرا مني , اين ذهبت ؟ لم الاحظ الى أي بيت دخلت ومتى دخلت , احسست بدوار يكاد ينسيني الاتجاهات , استجمعت قواي , وكما تقول جداتنا ( راحت السكرة وجاءت الفكرة ) , بهية دخلت لبيتها ولم تكترث بي ولا ببطاقتي , ولكن اين البطاقة ؟ عندما رميتها كنت بحالة من التوتر كافية لتنسيني المكان والزمان , رجعت ماشيا وانا انظر في الطريق عبثا , لم اجد الهوية , اعدت المحاولة دون جدوى , بدأت بالبحث عن سيناريو ارويه لابي عن اسباب ضياع الهوية .

عندما ترجعني ذاكرتي الى هذه الحادثة , اعرف ان عيون بهية كانت سببا في ضياع الهوية , ولكني لا الوم نفسي فقد كنت مراهقا مندفعا يسوقني تفكير يفقتقر الى النضوج  , ولكن لو سألنا عن اسباب ضياع هوية شعب كامل.....   فمن نسأل ؟  وما هو الجواب ؟