حيفا – بيت رقم 131

عصام أبو فرحة

[email protected]

كلما سمعت حديثا عن الموت عدت الى تلك الليلة المظلمة , اجلس في بيت من الطين تحت سقف من القصب , صوت بكاء النسوة يتردد صداه في اذني , صورة ذلك الرجل العجوز النحيف ذي اللحية البيضاء , هذا كل ما اذكره من صورة جدي , اعتصر الذاكرة فلا تاتيني الا بهذا المشهد , اذكره جيدا يمسك بيد والدي ويقول بكلمات تخرج بصعوبة , يا ولدي لا تنس مكان البيت ( حيفا -  شارع البحر- بيت رقم 131 )  . واذكره ايضا يحمل مفتاحا حديديا قديما ويعطيه لوالدي الذي تناوله منه بصعوبة حيث كان ملتصقا بكفه وكانه جزء منه , بكلمات بالكاد كنت افهمها تمتم جدي وقال ( اضعنا البيت فلا تضيعوا المفتاح )

كان ذلك  المشهد يعود الى ذاكرتي عند خروجنا من المسجد بعد كل صلاة جمعة حيث كنت اذهب مع والدي لنقرأ الفاتحة على قبر جدي , المفتاح الحديدي الكبير الذي يعلقه والدي برقبته بخيط اخضر كان يذكرني بكل التفاصيل وبكل الكلمات , كم سمعته يحدث امي عن المفتاح وعن الخيط الذي سيبقي المفتاح ملتصقا بصدره ,  وكيف ان هذا الخيط يربطه بوالده ويربطه بحيفا اظنه كان يتحدث بصوت مرتفع ليصل كلامه الى اذني .

لم ار في حياتي حزنا يمتزج بدموع كالحزن الذي رايته يمتزج بدموع والدي في ذلك المساء الذي عاد فيه من الحقل بيوم مغبر من ايام الخريف , سمعت امي تقول له ما يجبرك على حرث الارض في يوم مغبر كهذا ؟ انظر لعينيك , انها كالجمرات , كنت اعرف ان الغبار يسبب سيل الدموع , ولكنني احسست ان الغبار بريء , وان مصدر الدمع جرح غائر , اخذت ابريق الماء فتح كفيه وسكبت فيهما الماء حتى امتلئتا , غسل وجهه مرات ومرات حتى زال الغبار , ولكن الماء عجز عن ازالة الدموع وما فيها من حزن , كان والدي ينحني وانا اصب الماء في كفيه وكاد الابريق ان يفلت من يدي عندما وقع نظري على صدره , الخيط الاخضر ..... اين الخيط الاخضر ؟ لا اراه في صدره ولا ارى المفتاح , ربما هو في جيبه ؟ مستحيل لا يمكن ان يفارق عنقه ..  اين هو ؟ هل يمكن ان يكون قد ضاع منه ؟ داهمتني الاسئلة من كل جانب , نظرت الى صدره والى رقبته بتمعن اكثر , قطع صوته  تفكيري قائلا :  نعم يا ولدي لقد ضاع , وكانه قرأ افكاري باحساسه الابوي وجنبني بفطنته حرج السؤال , اضاف قائلا هذا الحصان اللعين جمح وافقدني توازني بينما كنت احرث الارض , سقط الخيط من عنقي بينما كنت احاول تهدئته , لم اجده حاولت وحاولت دون جدوى .

 كان ذلك اليوم نقطة تحول في حياة والدي ,  غابت البسمة عن شفتيه , صار قليل الاكل وقليل الكلام , اهمل عمله في قطعة الارض التي اشتراها بكل ما جمعه من مال في حياته , كان يذهب الى الارض فقط ليبحث عن المفتاح , وكم استبشر برؤية أي شيء اخضر تخرجه فأسه في اثناء البحث لعله ذلك الخيط , ما زالت كلماته تعيش في داخلي وهو على فراش الموت ماسكا بيدي يقول :  يا ولدي كم تمنيت ان اسلمك المفتاح لكن القدر منعني , ما يخفف حزني يا ولدي ان قطعة الارض التي دفن فيها المفتاح ما زالت لنا فحافظ عليها , اضعنا البيت واضعنا المفتاح فلا تضع الارض وابحث عن المفتاح واظنك تعرف البيت (حيفا – شارع البحر– بيت رقم 131 )

انشغلت بوظيفتي وباسرتي لكن قطعة الارض ظلت تعني لي شيئا كثيرا ففيها كل المال الذي جمعه والدي في حياته وفيها رائحة عرقه وفيها المفتاح بل وفيها الخيط الاخضر , الذي هو جزء من المفتاح وجزء من والدي , كنت اعتني بالارض كقيمة معنوية وليست مادية فليس لي في الزراعة والفلاحة  , لم يتسلل اليأس الى داخلي ظل الامل حيا بان اجد المفتاح  , كنت اسمع من والدتي بان من قرأ سورة الضحى وجد ضالته , كم ذهبت الى الارض وقرأت سورة الضحى هناك , كم مشيت ذهابا وايابا خلف الحاج ابو جمال وهو يقود الدابة ويحرث لنا الارض لعلي المح الخيط الاخضر , وكم اصطحبت اطفالي ليلعبوا في الارض وكنت اقول لهم من وجد خيطا اخضر فله مكافأة , فيجيبني ابني الاكبر الخيط الاخضر ام المفتاح ؟ كنت متيقنا بان ظهور المفتاح هو مسألة وقت لا اكثر .

فرض التقدم العلمي نفسه على كل مجالات الحياة كنت اذهب الى الارض ماشيا والان اذهب بسيارتي , كانت الارض محوطة بجدار من الحجارة المصفوفة بشكل عشوائي والان احطتها بسور اسمنتي ينتهي ببوابة حديدية , وها هو ابو جمال يبيع الدابة ويشتري جرارا زراعيا , ويبلغني ان حراث الارض لهذا الموسم هدية منه , واي هدية كانت ؟ هدية لا اغلى ولا اجمل ,  لقد نزل المحراث الجديد الى عمق الارض وقلبها راسا على عقب وكعادتي عند حرث الارض كنت امشي خلف المحراث وعيوني كعيون صقر يرصد فريسته , ويا لهول ما رات عيني , الخيط الاخضر امامي , سحبته بيد ترتعش , هل سيخرج وحده ؟ ام هل سيخرج معه المفتاح ؟

لم ارى في حياتي ثانية تمر كانها ساعات , اريد ان اسحبه بسرعة والخوف يجبرني على سحبه رويد رويدا , خرج الخيط من الارض , ما زلت اشعر بثقل , استجمعت قوتي , بدأت بقراءة سورة الضخى , سحبت الخيط الى الاعلى فلمع المفتاح في عيني , رغم السنين ورغم ما حمل من تراب فقد حمل بريقا يفوق بريق الذهب والماس , كان فرحي لا يوصف قفزت من مكاني مرات عديدة , اطلقت صيحة اظنها وصلت الى مسامع ابي وجدي تحت التراب , ابني الاكبر قفز من تحت الشجرة وجاء الي راكضا قفز معي صاح معي , رفعته باحدى يداي ورفعت المفتاح باليد الاخرى , انه المفتاح يا ولدي , ضاع البيت اولا وضاع المفتاح ثانيا والان ابتدأت رحلة العودة هاهو المفتاح قد عاد , بقي ان يعود البيت ,  هل تعرف مكانه ؟؟؟

ضحك الصغير وقال : ( حيفا _ شارع البحر _ بيت رقم 131 )  ............