فطور مع شخصية مهمة
فطور مع شخصية مهمة
سميح الجعبري - القدس الشريف
[email protected]
لم
يمض وقت طويل منذ أن انتقل عزيز نقلة نوعية، فقد تحوّل من الأكل على الأرض إلى
الأكل على الطاولة، ومن وقتها، يتناول فطوره مع الشخصيات (الهامة). بالأمس القريب،
كان على موعد مع رئيس دولة عظمى لشرب الشاي وتناول جبنة الماعز التي حضرتها زوجته
أم الجميل، وبينما كان الرئيس يتكلم عن الحرية في العالم اليوم، عمّ السكون المائدة
عندما سكب عزيز الشاي على ملابس الضيف مم استدعى تدخلاً فوريا من أم الجميل لتدارك
الموقف بالسرعة الممكنة لتجنب أزمة دولية محتملة، لم يغضب الرئيس ولم يحرّك ساكناً
واستمر في كلامه عن الحياة الوردية والتقدم الملحوظ على المسارات الدولية، بعدها
اختتم حديثه بالتأكيد على أن العالم بات بحال أفضل... خرج عزيز إلى العمل متأملاً
كلام الضيف : هل يصدق الضيف المقنع أم يكذب ما يرى أم يتوقف عن هذا التفكير المتعب
ويهتم بشؤونه ؟؟؟
في
اليوم التالي كان التنوع ملحوظاً على مائدة الإفطار بعد كارثة الأمس، حيث استضاف
عزيز عدداً من الفنانين الذين تحدثوا بشكل مقتضب عن آخر أعمالهم الفنية وآخر
فضائحهم وعن أهمية مواكبة العصر والتطور التكنولوجي الذي يسيطر على العالم
والعالمين، مع العلم أن عزيز من مؤيدي الموجة الجديدة من الفنانات اللاتي يشاهدهنّ
على شاشات الفضائيات كل يوم أثناء حديثه المطول كل مساء مع أم الجميل، فلعله من غير
الضروري الاستماع بقدر المشاهدة بل لعله من غير الضروري بتاتاً الاستماع لجهاز
حاسوب في الاستوديو يرافقه فيلم قصير من الإغراء المبتذل، لكنها تسلية قد أدمن
عليها البشر على امتداد العالم كله. ينتهي الفطور على وقع أنغام الملعقة تداعب حواف
كأس الشاي الذي تمرره أم الجميل معلنة بذلك قرب خروج عزيز إلى العمل في حقل
الزيتون.
في
صغره كان عزيز في فريق كرة القدم في القرية حيث كانت تلك رياضته المفضلة أو بالأحرى
الرياضة الوحيدة المتاحة، فقد كان يمضي أوقات فراغه مع أصدقائه في حقل الحاجة رفقة،
لم يكن ملعباً مجهزاً سوى بحجارة تحدد نهاية الملعب الترابي وبرميلين في كل جهة هي
المرمى، كان الغبار يعلو في الجو كل مرة يتراكض فيها الأطفال وراء الكرة الخاوية،
كانت أياماً جميلة تركت لدى عزيز مليوله الرياضية، وما زال يهتم بالأخبار الرياضية،
فقد أسعده كثيراً لقاء بعض الرياضيين العالميين والمحليين على مائدة الإفطار، ولم
يخفِ ذهوله أمام الجميع من أسعار اللاعبين الذين يتنقلون بين الأندية الأوروبية،
وكيف أن سعر لاعب واحد يمكنه أن يحل أزمة اقتصادية في بلده الذي يعاني الأمرّين تحت
وطأة الاحتلال وفي ظل تآكل مساحة أرضه التي وكأنها احدى الملبوسات الصينية التي
تضيق على صاحبها كل مرة تُغسل بمعاهدة أو تسوية جديدة للسلام في المنطقة...
يوم أمس كان الاثنين - وهو عادة يوم يصوم فيه عزيز - لم يتناول فطوره لكنه لا
يمانع تناوله اليوم مع نخبة مختارة من الكتّاب والمحللين. صحيح أنه يرهب الحديث
معهم لضعف إلمامه بالمفاهيم الأدبية ذي اللغة العالية، فجلس يستمع محاولاً الخروج
بشيء مما يدور على الطاولة حين احتدم النقاش بين الحضور، فلكل منهم رؤية ووجهة نظر
مختلفة تماماً، فلم يعرف من لمن ومن مع من واختلط الحابل بالنابل، فهو في نظرهم
جاهل وغير مثقف كونه لا يفهم أبسط المعاني، فمن العيب عليه أن يجهل كيف أنه إذا
ذهبنا إلى المؤتمر بلا تغطية شاملة من دون شخصنة في إطار خطة خمسية مرفقة بطي
برنامج متكامل فإننا سنُرمى بكعب أخيل وسنعود بخفيّ حنين ناسين أن الديماغوغية
والبوهيمية التي تسود العالم تجعله سيريالياً صعب الفهم كما قال أوسكار وايد في
روايته الشهير صورة دوريان غراي، بينما يرد آخر : يا سيدي هذا كلام لا يستند إلى
أدني درجات الصحة، فأنت من الطابور الخامس ونقاشك بيزنطي لأنك رجعي إنبطاحي تعمل من
الداخل بل أنت حصان طروادة... على الأقل حصل عزيز على فطوره وخرج هذه المرة دون أن
يشرب الشاي.
مضى
شهر منذ انتقل عزيز النقلة النوعية تلك، وقد استقبل فيها كل فئات العالم والمجتمع
من سياسيين واقتصاديين وشعراء وأدباء ورياضيين وفنانين ومنجّمين... التقى الجميع ما
عدا الأموات الغالين والشموع التي انطفأت والزهرات التي ذبلت، فصفحة الوفيات هي
الصفحة الوحيدة التي لا تستعملها أم الجميل كغطاء لطاولة الإفطار.