غزّة والرئيس

غزّة والرئيس

محمد محمد البقاش - طنجة

[email protected]

هاجت الدنيا وماجت حين وُقِّعت معاهدة كامبد ديفيد المشؤومة، رفضها شعب مصر والعرب والمسلمون وأحرار العالم، وقّع عليها حاكمها في تحدٍّ لإرادة الجميع، ستظل معاهدة شخصية لا تمثيل فيها إلا لأبطال محرقة غزة الثانية من حفدة قتلة الأنبياء، وأبطال العامرية وغوانتانامو وسجن أبو غريب من رعاة البقر.   

سلك الرئيس المؤمن مسلك إبليس وهو يظنه مسلك مَلَك، تململت الأرض تحت قدميه ومادت به، ولكنه حسبها متحرِّكة لثمالته.

نشط المثقفون والسياسيون المنتفعون يطبِّلون لها ويزمِّرون، تنتفخ أوداجهم للنفخ في الأبواق حتى تنفلت من مؤخراتهم غازات قذرة، وتخرج لنفخهم من عيونهم سوائل وضِرة، يشفق عليهم أطباء فيضعون على إستهم صمّامات كتب عليها: ماركة مسجلة، لم يسلم من الوضاعة والوقاحة علماء كالبيصار، وأدباء كصاحب أولاد حارتنا...

بعد المعاهدة نشطت الصحافة بمقالات، وامتلأت الساحة بحركات، غلت بمحاضرات وندوات. بعض المسئولين الأمريكيين ساهموا في تنشيطها، ومما يعجب له أنها كانت في موضوع خلافة الرئيس المؤمن؛ والرئيس المؤمن لا يزال يدخّن غليونه ويشرب نخبه.

لقد ارتبك الرجل المُسْتَفْرَغ، ولكنه لم يفق من غروره ليقف على ما يُدبّر له، ظن المسكين أنه محميّ بأمريكا وإسرائيل لما قدمه لهما من إنجاز لم يحلما به قطّ...

في خضمّ ذلك كان الإسلامبولي ينشط تحت مجهر لم يكن يعي عليه، مثله كمثل الطائر الحائم في السماء ينتظر صعود الغطاس بسمكة بين منقاريه ليسرقها منه، لم يبادروا إلى إيقافه، أو يعملوا على إفشال مخططه لحاجة في نفس رئيس البيت الأسود...

وكان في الجيش طيّار طموح لا يختلف عن الملك فاروق في استعداده لاستبدال دينه مقابل منصب سام يسعى إليه جاهدا، دفعه غروره وحفّزه طمعه فسافر إلى واشنطن على مرأى ومسمع من رئيسه الذي يظنه صديقه، لم يعترض على سفره، أو يعمل على منعه، كذلك ظن الأغبياء المُسْتَحْلَبين.

دخل وكْر المؤامرات على الشعوب يبغي مقابلة الرئيس، لم يكن على موعد معه، ولم يكن للرئيس وقت فراغ لمقابلة الدّونِيّين، كما ليست تلك من بروتوكولات البيت الأسود، حبسه البواب وطالبه بالانتظار ريثما يعود من مكتب رئيسه.

ولما عاد ألقى إليه قائلا: (( لم يقبل رئيسي بمقابلتك، فغادر غير مطرود)).

ـ ولكنني أريده في شأن هام.

ـ وما هو؟

ـ دعك مما أحمل، فليس هو لك.

انتفخ المسكين على البواب فظنه شبيها بالجندي العربي أو المصري الذي تحت إمرته، يقهره ويسبه ويضربه إن شاء ولا حسيب ولا رقيب إلا أن يتصرف الجندي من تلقاء نفسه فيقوم بعمل جنوني انتقاما لشرفه؛ وكم فيهم ذوي شرف ونخوة وعزّ وإباء، حدث مثله في الصحراء الغربية حين فتح جندي النار على جنراله وهو يأخذ حماما باردا والجنود يشتكون العطش وقلة النظافة، نادى على الجنرال وهو تحت رشاش في يوم حار: ((سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال)) ولما التفت إليه أطلق عليه النار ليرسم لوحة يغلب عليها لون المجازر اليهودية في غزة الصامدة.

غضب البوّاب على الطيّار لقلة حيائه، ولكنه لم يطرده، فربما حمل في جعبته ما ينفع دولته، فنهره قائـلا: (( لا تتحرك من مكانك حتى أعود إليك)).

وعاد إليه يقول: ((يرفض رئيسي مقابلتك، ويطلب منك عرض ما جئت به علي، فقلْ وعجِّل إن كان لديك ما تقول)).

انكمش الطيار كما لو كان بالونا انفجر بعد انتفاخه، وتذلّل كلصّ ضُبط متلبِّسا، خفت صوته وانثنى ظهره ولان لسانه وتأنقت كلماته فقال في خجل وهو منكّس الرأس متورِّم الذهن: ((أريد خلافة الرئيس المؤمن)).

لم يرض الرئيس أن يخلف عميله البالي عميل رخيص، فبادر موظف البيت الأسود قائلا: ((عد إليه وطالبه بالعودة إلى بلده واللقاء بالرجل الذي سيخلف عميلنا، وليتفاهم معه)).

رجع الطيار إلى بلده قاصدا المرضيّ عنه الذي اختير لخلافة الرئيس المؤمن، ثم اجتمع إليه وتناقشا؛ فاختلفا، الجنرال يريد رئاسة الدولة لنفسه والاحتفاظ بقيادة الجيش ومعه دعم أجنبي وتأييد داخلي، والطيار حريص على الأبهة والحكم ولا من يسنده، ولكن لم يعرف عن الجنرال أنه طموح، أو شغوف بالسلطة، لم ييأس الطيار فقابله مرة ثانية، ثم قابله حتى حمله على القبول بمنصب واحد هو وزارة الدفاع؛ وكان ذلك بتنسيق مع رئيس البيت الأسود مخافة أن ينقلب الطيار ويتحول عن عمالة أمريكا، لأنه لم يكن في قائمة العملاء المصطفين.

وُعد الطيار برئاسة الدولة، وبعد فترة وقد عُلم إخلاصه للأجنبي وعداؤه لشعبه وأمته؛ اغتيل الرئيس المؤمن، فتولى هو منصبه دون وزارة الدفاع، ثم سُلِّم له الجيش كله، وغادر الجنرال لتولي سفير مصر في أمريكا، ثم تخلى حتى عن السفارة، فاستأثر الطيار بمصر كلها وسام شعبها وشعب غزة سوء العذاب، ولم يزل.