لآلئ الجنة
محمد محمد البقاش - طنجة
من قرية وادي حنين الـمُهَجَّرة في النكبة انطلقت القافلة، حملت جينة طاهرة في صُلب والدٍ بارّ، نبت الشِّبْل في بلاد مبارَكة تشكو الاغتصاب ولم تزل، سكن مخيم البريجْ مع أسرته.
تربّى الطفل وسط أسرة من أعضاء تسعة، نشأ شغوفا باللعب، يهتمّ بكرة القدم، يعشق الذهاب إلى البحر، ويهيم بتربية العصافير.
في يوم التهم من مؤخرة صيفه طرَفا، وعند أحد عشر ربيعا للؤلؤة الجنة مع سويعات جريحة لا تتعدى ذكر الشمس في الكتاب المجيد (1)، طفِق الأسد يتحرّك صُحْبة شِبْله عائدا من سوق السيارات المستعمَلة، يتحركان من غزة إلى مخيّم البريجْ.
وهما يخطوان امتلأت الأجواء بصدى الطّلقات النارية، الوابل غزير كأنه مطر مطير، احتميا بكتلة خَراسانية اتِّقاء للإصابات، لم تتوقّف سبّابات الجنود عن الضغط على الزناد حتى عمَّرت ساعة كاملة، كان الوالد فيها قلقا على ولده، يلوِّح بيده طلبا للنجدة، أصيبت يمناه المستنجِدة واليهود يمعِنون في إطلاق النار، ثم أصيب الطفل في رجله، فصاح متألما تسبقه دموع استنبتت عينا غزيرة ستصنع بحرا يغرِقِ الظلمة، يرتعب من شدّة الخوف قلبه، سقط إلى جانبه عصفوره الجميل، ذاد عن الطفل الذي حرّره فقُتل، خرجت عبر فمه كلمات تزلزل الأفئدة، يقول لأبيه:
(( احمني يا أبي.. احمني يا أبي.. )).
يحتمي المسكين المحاصَر بجسم أبيه عند كتلة خراسانية وقد فزع إليه صغره، انطلقت هذه العبارة كالسهم وسرت في كيان الوالد فاحتضن صغيره يحميه ويجنِّبه رصاص الجنود الإسرائيليين، لم يتوقّفوا عن رميهما، تعلّق قلبهم بالصبيّ، يكرهون صِبْيان فلسطين، ويتمنّون العقْم لأمّهاتهم، صوّبوا بنادقهم بشكل متعمَّدٍ إلى مَقْتل الصبيّ وأطلقوا النار بكثافة فأصابت أجزاء كثيرة من جسم الوالد الشجاع وهو يقول:
(( لقد مات الولد.. لقد مات الولد.. )).
صُمّت آذان الجنود عن سماع الصّرخات، وشُنْكِلت قلوبهم عن ولوج أيّة ذرّة من ذرّات الرّحمة، فانخرطوا في قهْقهات منتشين بفعالهم.
حمل الدُّرة ولده وهو مخضّب بالدماء، وكان للصبي أخت كيِّسة لا تكاد تََخَطّى ربيعها السادس، تأمّلت محيطها، وحدَّقت إلى وجه أمها وأبيها.. تقرأ الانكسار العربي والإسلامي في فضاء فلسطين الحبيبة.. وحين سمعتهم يردِّدون: (( مات محمّد.. مات محمّد.. ))
انتفضت كعصفور الدّوري الذي كان قُبيْل ذلك بيد الشِّبل الشهيد وشرعت تقول: ((اليهود قتلوا أخي، لكنه لم يمت، إنه في الجنة يلعب مع الطيور )).
وتتقدم القافلة نحو التحرير وتحمل معها أطهارا وأطهارا إلى أجل سيقف لينقلب الحزن فرحا، والشقاء سعادة، تتقدم على أشلاء، وتمشي على جثامين، وتدوس على دماء وهي مبتهجة لعظمة الأنفس التي تبْتاع من الله رضوانه..
يُتوَّج الشهيد بتاج الطُّهر، وتُتوَّج الشهيدة بتاج الصفاء.
تحمل بثينة اسمين اثنين، اسم ذُبح له كبش أقْرن، واسم أُلصق بها صفة لها فكان براءة.. صاد البرعمَ ضبعُُ نتِن، قضى عليها برصاصة لم تحبس عنها ربيعها الخامس ولم تؤخر منه شيئا، أسقطتها يد صهيونية في الانتفاضة الأولى لأطفال الحجارة..
رحلت ابنة عم أميرة الشهيدات، ودخلت رضوان ربها مبتهجة كعروس في هوْدج تُزفّ إلى عريسها في حضرة الملائكة، سارت إلى حياة طيبة كريمة في جنّات النعيم..
بقيت بقايا جيناتٍ من عمومة تنتشر في الأبناء. أبو الأميرة والد حنون، وهو معاق برصاص الاحتلال، على إعاقته يبرّ ابنته ويحفظ لها أبُوّتها..
ملأت عليه الصبية حياته. نوَّرت الأميرة بيت أمها وأضاءت قلبها وأدفأت فؤادها، ركبت معها شهرها الأول يغبطها القمر المنير، وحين كان الشهر الثاني صعد في تتويجه بما يحمل من جديد طارئ على الصبيّة، شرعت فيه تسْتَنْطق محيطها ولا تنطق له؛ لصغرها، تُخرِج الأصوات ولا تبين الحروف، تتراقص على لسانها حروف صغيرة في سنها لا تسْلسْ لناطقٍ حتى تنضج، قليلة هي في عددها قلة الرموز الموسيقية في أبجديتها (2)، ولكنها ذات حمولة كبيرة لا تطاولها سيمفونية الطيور والعواصف وهدير المياه وغضب الطبيعة وهدوئها، ولا القدر يقرع الباب (3) تدير لسانها في فمها وتعبث بالحِبال الصوتية، لا تفعل ذلك إلا بعد جهد جهيد يصعد له الهواء الساخن من رئتيها ليحرك أوتار صوتها..
حملتها مطيّة الشهر الثالث على ذراعي أمها، فحُمِل الحبور حملا إلى أبويها، سعدا بها وانفتحت لهما نوافذ ترسم المستقبل لابنتهما بإرادة قد تسود وربما لا تسود، ويتقدم الزمن يطوي حتفه طيّا، ويلوي عنق أجله ليّا، يهرول إلى ركنه حاملا كل شيء معه فلم يترك عند الشهر الرابع إيمان، خُطفت برصاص اليهود أميرة الشهيدات وهي بين ذراعي أمها، سقطت إيمان حجو شهيدة متوَّجة بعمرها القصير في الدنيا؛ الطويل في البرزخ..
وحيث تفاخِر حُبيْبات الرمل وهَباءات الصحراء، وحيث تتباهى مياه البحر بملامستها أجْبِنة الفاتحين وأطرافهم؛ وُلدت هدى.
كانت قبيل انتهاء الموسم الدراسي تُعدّ لنزهة على شاطئ رَفَحْ الجميل في غزّةَ المكلومة، تدفع بعجلة الزمن نحو حتفه.
وجاء الموعد، وكان في صيف التاسع من يونيو سنة قانا الْأُلْمَرْتِية (4)، وخرجت هدى صحبة أختها صابرين وهنادي، أمها تحمل رضيعها في يديها، وأبوها ينشط لرحلتهم، يعلو وجه هدى الحبور، ويستوطن جبهتها السرور، تنتشي بالسباحة والركض والقفز والتراشق بمياه البحر.. تنعم بالحمامات الشمسية، وتتناول طعامها؛ حبّات بطاطا مشْوِيّة في غياب روتين المنزل، يقدّمها علي أبو غالية لأسرته؛ عدا الرضيع هيثم.
بينما هدى في غفلة لما يُدبَّر لها، بينما هي في عالم الأطفال ترتشف منه طفولتها قبل رحيله عند حلول الظلام؛ رجعت إلى أبويها لتتبدّل حياتها، وتنقلب أساريرها.
أسقط اليهود أبويها، سلبوا الحياة من حياتها، كلموها في قرة عينيها، في غزَّةَ على شاطئ رفَحْ صرختْ، تمرغتْ، بكتْ، رقصت لذلك خنفسة الدفن، وانتشى بالقتل سيد الجِعْلان.
التقطتها عدسات الكاميرات، والتقطت سفنا حربية إسرائيلية في عمق البحر. قذف اليهود بالموت حِبَّ هدى، وحياة هدى. أدمع المشهد مُقَل الناس. سلب هيثمُ رجولة الناس. أخرست هنادي ألسن الناس، وفضحت صابرين نفاق الناس. شوهدت هدى مروّعة في الفضائيات، وأعيدت المشاهدة، لم ينصفوها، وهل ينصفها الجبان؟ هم الجبناء، والحكام العرب أجبن، حتى التمثيليات عدموها، ماتت قلوبهم، سقطت حجتهم..
خفت صراخ هدى كبطارية نفذ مخزونها من الطاقة، ثم ارتمت في أحضان ربها تستنصره، يبست أصابعها، وتورّمت أفكارها فلم تعد قادرة على فهم ما يجري. طفلة هي وأيّ طفلة! تحوم بعينيها باحثة عن مأوى أو ملجأ، باحثة عن منْصف أو مُخلِّص، تنظر إلى جثامين صابرين وهنادي وهيثم ولا تطيل النظر، تقرع حبال صوتها بالصراخ والبكاء والأنين لمصرع أمها وأبيها، بينما هي كذلك سمعت صوتا من وجدانها يقول:
(( هدى يا هدى: عندما تكبرين لا تتزوجي ذريتنا، لا تمنحينا شرف النسب، نحن السقط، نحن التبن، ونحن الهشيم )).
تدخل هدى غرفتها لتجد الوهم قد تدثّر فوق فراشها، حرّكته فلم يتحرّك، فهل هو ميِّت؟ تتمنّى موته ولا تقدر على إماتته. صاحت بأمها: ماما.. ماما.. ولكن أين ماما؟ ما يزال الوهم يحتلّ فراشي، وما يزال الخوف من طرده يسكن رجال الدار، فهل تنوبين عنهم في استرداد فِراشي، وانتزاع غَواشي؟ صاحت مرة أخرى ولكن بأبيها: بابا.. بابا.. ولكن أين بابا؟ ما يزال الدخيل يحتل أرضي، وما يزال المغتصب يخرِّب بلادي، يرمِّل نسائي، وييتِّم أطفالي، فهل مات الرجال؟ أم ندروا؟ يحفِّز الذلّ العزيزَ فيقاوم، ويحفِّز الذليلَ فيخنع..
(1) ذكر الشمس في القرآن ورد 30 مرة.
(2) الرموز الموسيقية هي: الدائرة والبيضاء والسوداء وذات السن الواحدة وذات السنين وذات الثلاثة وذات الأربعة. وهناك رموز للصمت أو السوبر كما تسمى ولها زمن مختلف، ففيها زمن الدائرة وفيها زمن البيضاء والسوداء..
La Ronde, La blanche, La noir, La croche, La double croche, la triple croche, La quadrible croche
زمن للصمت يأخذ زمن السوداء. ونصف السوبر يأخذ زمن ذات السن الواحدةLe soupire
زمن للصمت أيضا يأخذ زمن الدائرة، ونصفه يأخذ زمن البيضاء. La puse
(3) السيمفونية التي تحتوي على أصوات الطيور وهدير المياه وهدوء الطبيعة وغضبها والعواصف هي السيمفونية السادسة؛ السيمفونية الريفية كما تسمى. وسيمفونية: القدر يقرع الباب هي السيمفونية الخامسة وكلتاهما لبيتهوفن.
(4) قانا الألمرتية أطلقت للتمييز بين مجزرة شمعون بيريز في قرية قانا بلبنان سنة 1996 وقانا الألمرتية المجزرة التي اقترفها ألمرت رئيس الدولة العبرية سنة 2007.