عقيقة النّبْتة
محمد محمد البقاش - طنجة
أمُّ أحمد تُعْنى بنباتات تزيِّن بها بيتها. فيه سَرْخسِيات كأن أوراقها آذان الفيلة. به زهْريات مشاغبة تنْشط لجلب اللّواقح فتنتشي لركْض هنْد وهروبها من الحشرة الكريمة. أخرجت النباتات شَطْأها البديع النّضِر، وتألقت تختال بجمالها البهيّ.. تضعها ربة البيت في حاويات خَزَفية وبلاستيكية، وأخرى خشبية جميلة..
ترعرع أحمد بينها يزحف ويحبو في فناء الدار، تارة يعبث بها ويخرِّبها، وتارة يقلب حاوياتها ويكسر أصيصاتها، تعيد أمّه لنُبوتها ترابها وتسقيها فتنجو من الموت، ثم تعود لها حياتها فتنشر رونقها وتبسط بهاءها في البيت..
توجَّعت أمّ أحمد من حملها فاضطُرّت إلى ملازمة الفراش بُرْهة؛ بعيدة عن طفلها، بقي وحيدا مع أخته هند، ترعاهما جدّتهما فاطمة..
تنبَّه في غياب أمه للنبات وكأنه يئِنّ، كأنه يصرخ باكيا، أو يذرف الدموع شاكيا، هكذا ظنه به، يتأمّله وينظر إلى أوراقه وقد اصْفرَّت، يتأمّل أغصانه وسيقانه وقد بدأت تجفّ، لا تحيا بنفس ما يحيا شعْر رأسه وأظافره (1)، يحوم بنظره باحثا عن رونقٍ مفقود لا يتذكره إلا من خلال ذاكرته، ثم ينام..
يصحو الطفل مرة تلو أخرى ويذهب إلى مدرسته؛ والنبات في منزل أمّه يشكو الجفاف. الأمّ في المستشفى نزيلة تنتظر مولودها الثالث، ترقب طلعة بهية لمولودها، والصبي في ديدنه يئِطّ.. يتضوّر النبات جوعا ويتألّم عطشا ولا أحد يحتفي به، لا يدعو ربّه لاستنبات حاسة النطق لديه حتى يرفع مظْلمته، له حواسّ بدائية تُسْعفه في مملكته، لا يفعل وقد منحها الله للإنسان ليحسّ به.. يجلس في بهو الدار سابحا في عالمه الصغير، يتذكّر أمه فيشتاق إليها، ثم يبكي، يتذّكر رعايتها وعنايتها به وبالنبات، ثم انتفض كالعصفور تحت القَطْر قائلا: (( لِأحاكي فِعال أمَي، لم لا أنوب عنها فيما تفعله بالنبات؟ أفعل والله، أعتني بنبوت أمي لعلها تستحيل في يدي نبوت عزٍّ وسُؤْدد )).
نهض وأحضر الماء بمقدار ما يحمل الإنسان البالغ من لترات من الدم (2) وشرع يصبه على النبات وهو يقول: ((النزلاء في المستشفيات يقدَّم لهم الطعام والشراب، والطليق من الحيوانات يبحث عن طعامه وشرابه، والنباتات في الأرض تضرب بجذورها إلى الأعماق بحثا عن الرطوبة والغذاء، ونباتي سجين في حاويات تمنعه من البحث عن رزقه، فهل أكون مجرما إن أنا أهملته ؟ )).
مكث أحمد أياما يحفل بنبات أمه، أطرب سلوكه قلْب أبيه وأنبت الحبور فيه نبْتا، ولكن هنْد صارت تجدُ عليه وَجْدا، يوبِّخها إن هي حاذت النبات دون إشعاره باهتمامها به، تشكوه إلى أبيها وترفع تظلُّمها بقولها: ماما.. ماما.. وهي تشكوه أباها. اكتنزت بشوق فاض عنها حتى أُهْرق ساخنا على خدّيها، وحضرت أم أحمد، وطارت هند فرحا، دخلت عليهم وهي تحمل في يديها وليدها وقد وضعتها أنثى، سكنت هند عند رؤيتها أختها، جمدت مكانها وهي قاب قوسين أو أدنى من مكان أمها، نام شوقها فلم تحفل بأمها على حبّها لها، أمها تخاطبها: (( انظري إلى أختك يا هند، إنها جميلة وسيمة، تعالي قبِّليها )).
بدت هند وكأها قبْر مأهول، حملها أبوها وهو يقول لأمها: (( البنت غيورة، انتبهي لأختها، احذري أذاها لها، فهي ترى فيها منافسة على مكانتها، تلك لغة غير منطوقة، إنها لغة الصبيان )).
امتلأ البيت بالسعادة وغمرته البهجة، امتلأ بالأهل والأحباب، نشطت هند مع قريناتها، تقودهن إلى غرفة أمها لرؤية مولودها.
وبعد هُنيْهة صاحت هند:
(( بابا.. بابا.. )).
فرد عليها أبوها:
ـ ما بكِ يا هند؟
ـ ضربَتْني ماما.
ـ الله؛ لعلّّكِ ضربت عاتكة.
ـ كلاّ.
ـ أو لامستِ البوطاكاز.
ـ لا أفعل ذلك.
ـ أو سكّين المطبخ.
ـ ولا ذاك.
ـ هلمَّ إذن لمعاقبتها.
بينما هند تعدو بحصانها مُعْتدلةً فوق خَصْر أبيها؛ داعبتها صور من الماضي القريب ذكّرتْها بفعال نابتةٍ في بيئتها، فشرعت تعرضها تظلّمات على أبيها.
نهض أبو هند من فراشه يسألها عن مكان أمها، وحين دخل عليها المطبخ فزعت هند وولّتْ هاربة من حشرة لم يعرف بعد سرّ مقاومتها للإشعاعات القاتلة (3)، تخلّص منها، ثم شرع ينزع من سرواله حزامه الجلدي في زمن قدره عمْر هندٍ من الثواني وهي تنظر منْدهشة، وترْقب قلِقَة، أخذ أمَّها من ذراعها الأيمن والحزام الجلدي في يده، فرفعه وظهرت لهند هيْئة الضرب، فاندفعت شفوقة إلى حضن أمّها تحميها من حزام والدها وهي تصيح: ((لا، لا تضرب ماما.. لا تضرب ماما..)).
حضر أوان العقيقة فاشترى أبو أحمد كبشا أقرن لعاتكة، أوْلَمَ به لأقربائه وأصدقائه وجيرانه، كم كان يوم سرور، وكم كان يوم حبور، تحولّت هند فيه إلى فراشة لا تفتأ تقف على زهرة أو وردة حتى تطير، قضت سويعات يرشقها الهواء ولا يقعدها العياء، ظلت كذلك حتى ساعة متأخرة من الليل.
وعندما انفضّ الناس بقي أبناء عمها وخالها للمبيت عندهم، وبينما هم في نشوة الفرح وقد اضطجعوا قرب بعضهم البعض توسّطهم أبو هند وجلس القرفصاء لمسامرتهم قليلا، كم يحبونه ويهرعون لتلبية حاجته، وبين كلام وكلام، ورغبة ورغبة قرّر النزول عند رغبتهم،فلقد طالبوه برواية حكاية، أو سرد قصة، لا يملك إلا أن يستجيب لهم فقال:
ـ تحت سماء مهيبة، وفوق أرض قشيبة انطلق قردان يجِدّان لقتل جوْعتيهما، تسلّقا أشجارا لا حَبَّ فيها ولا فاكهة، ثم نزلا الأرض يبحثان عن حشرات، لا جراد فيها ولا خنافس، ولا حباحِب أو جِعْلان، عيِيا من بحثهما، ثم قصدا جنّةً مُسيَّجةً لا نفاذ إليها، طافا بها حتى دخلا من حيث يدخل القنفذ ويتسلّل الأرنب، اتجها نحو شجرة الموْز، سال لعابهما قبل تسلقها، قُطوفها دانية، وثمارها ناضجة.. أتيا على ما كان دانيا، ثم تسلقاها، وبينما ينتشيان بطعم الفاكهة فوق عنقود بدين؛ مال بهما فسقط وهما متمسِّكان.
حضر صاحب الموْز ورمق القردين فتعجّب، لم يعهد في جنّته قردا فكيف دخلا؟ علم أنْ قَدْ خَرِبَ سياجُ جنّته في جهة ما سيبحث عنه لإصلاحه، ولكن ماذا يفعل بالقردين؟
هزَّ شجرة الموز هزًّا عنيفا والقردان فوقها يتمسكان بها خشية السقوط، الموّاز يهزّ الشجرة هزّا والموْز يسّاقط وهو لا يفتر عن الهزّ. القردان يتمسكان تمسُّك الغريق بالموج حتى سقط أحدهما عند قدميه، أخذه من ذيله والقرد يصيح محاولا الانفلات، فوضع الحبل في عنقه، ثم أرسله، فانطلق القرد يظن أنه طليق ليرده الحبل على عقبيه، شرع يدور على الموّاز كما لو كا فرسا يُروِّضه فارسه. تسلّم العصا، وطوى الحبل شيئا فشيئا حتى كان بطول عشرين موزة، فشرع يضرب القرد ضرب المطرقة للسندان، يهوي عليه والقرد يقفز ويصرخ حتى شبع منه واكتنز بعقوبته التي يستحقها في نظره، ثم أرسله..
ركض القرد غير ناس مكان تسلُّله يصيح متوجِّعا إلى أن وقف عند قدم صديقه الذي ولّى هاربا قبله، تحلّق حوله القردة مشفقين يلامسونه ويواسونه وهو يغمض عينيه ويفتحهما حتى أمن واطمئنّ.
وفي الغد تحرّك الناجي يتبعه المُُفْْجَع كظلِّه حتى إذا أتيا جنّة الموز استرجع من غريزته إحساس الضرب، فانقلب عائدا.. ثم انقلب محمولا على ضعفه في مقاومة الموز وحلاوته..
تسللا إلى موزة مثقلة يغلب على ثمارها لون بقرة موسى (4)، ثم شرعا يأكلان، وما إن نزلت مِعْدتيهما نصف موزة حتى اهتزّت بهما الشجرة، لقد حضر صاحب البستان غضبان يكاد يجتثُّ الشجرة، سقط نفس القرد لقلة حيلته وكان قد أعدَّ له البستاني نقّالة لا تحمله إلى بيْطري يعالجه، بل إلى حفرة يُلقى فيها ميْتا، فراغ عليه ضربا باليمين يَدْمى لضرباته جسمه وهو يصيح مسمعا الفارّ الناجي وبني جنسه من بعيد، أمعن الموّاز في ضربه مبيِّتا نيَّة قتله لولا انفلات القرد من عِقاله وهروبه..
وفي اليوم الذي سقطت فيه بغداد تحرّك القرد الذي ينجو دائما، ولكن صديقه لم يتحرّك، فدنا منه وخاطبه قائلا: ((هيا إلى الموْز، فكم هو لذيذ)). فرد عليه: ((لا، دائما أقع أنا، اذهب وحدك، فأنت المحظوظ)).
ـ انهضْ وتقدّمْ معي ولا تخفْ.
ـ وكيف لا أخاف وقد كاد يقتلني البستاني لولا حبله المتهرِّئ الذي انقطع وحرّرني؟
ـ اليوم أقع أنا، سألقي بنفسي بدلاً عنك.
ـ أحقا؟
ـ نعم.
انطلق سيئ الحظ مع صديقه لا يقاوم رغبته، ولما كانا في بستان تفجَّرتْ منه عيونُه، وانتصبت فيه أشجار صنعتْ ظلالَها جفونُه وقد ازْدَردا من الفاكهة ما ازدردا، حضر صاحب البستان في رفقةٍ بعدد إلكترونات ذرة الهليوم (5)، ثم شرع يهزّ الشجرة وسقط القرد الوفيّ.. ألقى بنفسه يوهم الموّاز أن هزّه للشجرة هو الذي أسقطه، وحين وقع لم يمدّ يده إليه، بل ركله برجله وهو يقول: ((لقد شبعت من ضربك وأستسمحك، تنحَّ جانبا ودعني مع الذي ينجو دائما ويحسن التمسُّك بالشجرة، فوالله إن لم أسقطه بهزّي هذا؛ لأصْعدنّ إليه، أو لأقْطعنّ الشجرة))..
شرع يهز الشجرة حتى أسْـ...
ما إن أشرف أبو أحمد على تمام قصته حتى نام الأطفال، ناموا على وقع حكاية سيتذكرونها منقوصة، حكاية القرد بين الحظ والعصا..
ولكن صبيّا ما يزال يتابع وهو مُغْمض العينين، لم ينتبه إليه عمه، وبينما هو يحاول الوقوف تعلّق به بسّام ففاجأه، التفت إليه يقول: ((لم تنم بعد أيها القطّ)). فرد عليه: ((حتى تكمل لي الحكاية)). فقال له:
ـ لدي شرط.
ـ ما هو؟
ـ أن تكتم نهايتها عن الأطفال، فهل تعدني؟
ـ ولكن لماذا؟
ـ ليطلبوا نهايتها مني.
ـ أفعل.
ـ ... ـقَطَه والقرد يتحسّر على حظه السيئ، ولما هوى عليه بعصاه ما ثنّى الضربة إذْ همدت جثته بين يديه، فقضى في الحظ والعصا.
(1) يحيا النبات وينتعش بخلايا حية، بينما يحيا الشعر وتحيا الأظافر بخلايا ميتة مليئة ببروتين الكراتين.
(2) يوجد بجسم الإنسان البالغ ما بين 5 إلى 6 لترات من الدم.
(3) الحشرة التي قاومت الإشعاعات القاتلة منذ ملايين السنين وثبت جنسها إلى يومنا هذا هي حشرة الصرصور المنزلي، وسيعمد الإنسان إلى البحث عن سر ذلك للاستفادة منه في رحلات الفضاء.
(4) بقرة موسى هي البقرة التي ذكرها الله في القرآن العظيم وسمى سورة باسمها، تلك البقرة هي التي أنهى بها الجدال السخيف الذي افتعله اليهود مع نبيهم موسى فقضى الله أن تكون صفراء فاقع لونها تسر الناظرين حتى لا يتذرعوا بغيرها فذبحوها وما كادوا يفعلون. والجملة يكنى بها عن نضج ثمرة الموز.
(5) إلكترونات ذرة الهليوم 2.