بقايا عائلة فلسطينية جداً
جسر العودة
ياسر علي
وفي ختام الجلسة الأخيرة، أسند ظهره إلى عمود المسجدالمرقّع بالطين ليغطي الثقوب المخترقة بالرصاص منذ عشرين عاماً في أثناء حرب المخيمات، وقال: وهكذا بنيّ، عايشت القضية الفلسطينية وتداعياتها على الإنسان الفلسطيني العادي، وليس على الورق أو المحاور القتالية، فكنت عرضة للمفاجآت الدائمة بسبب عدم معرفتي بخفايا اللعب بالنار الذي فرضته السياسة على الفلسطينيين.
فجعلتني القضية ببطولتها ومأساتها ضحية وقاتلاً، ومناضلاً وجندياً وقائداً، وحاكماً ومحكوماً، ومطارداً بتهمة المقاومة مرة، ومرة بتهمة الجريمة، وسجيناً وسجاناً، وعاملاً مياوماً ومنظّراً فكرياً.. وفي بعض لمعاتها جعلتني بطلاً..
لكنني لم أكن بطلاً!
ولم أعتقد يوماً أنني بطلٌ!
غير أن البطولة نسبية، ووجهات نظر. تتغيّر بتغيّر المكان والزمان.. أما الثوابت فهي قليلة، وتكاد تكون الحقائق كذلك.
فقد يكون ما فعلته في ذلك المكان بطولةً، لكنه في مكان آخر «جريمةٌ».. و«الحجر بأرضه قنطار».
وقد يكون ما فعلتُه في ذلك الزمان بطولة، لكنه الآن جريمة أو تخلّف! و«بطل زمانه» لن يكون بالضرورة بطلاً في غير زمانه.
وكما تراني أمامك الآن، كنتُ. وأنا «الآن هنا» أُشبهُني تماماً حيث «كنت هناك». ولا أشعر بالفرق إلا أمام المرآة، حين تلمع من تجاعيد وجهي كل الصور الأليمة التي مرّت عليّ، بعد أن أَعتقد في لحظة ما، أنها ذابت أو نُسيت..
وها أنذا، مرّت عليّ نوائب الدهر والبشر والسياسة والقضية الفلسطينية، ولم أفقد يداً أو رجلاً أو أحداً من أفراد أسرتي، لكن كلّ ما مرّ على شعبنا سجّل في قصتي علامة فارقة. حتى إنني للحظة ما، أظن أن تجاعيد وجهي أمام المرآة هي مفاصل ومفارق ومسارات القضية الفلسطينية.
صحيح أن كل حدث فيها أثّر على حياتي، ولكن الأصح أن الأحداث كانت تتأثر بنا من دون أن نقصد، حيث كانت ردة فعلنا نحن الجماهير العامة، هي ميزان حركة هذه الأحداث..
أستودعك وأوصيك لتُخبر من تعرف: نحن واثقون من العودة. وكلما غابت شمسٌ اعتقدنا أنها لن تشرق قبل عودتنا. وإذا أشرقت، فهي لن تغرب علينا إلا في فلسطين..
هذا ليس خطاباً ثورياً تعبوياً، بل هو حبّ..
أكثر من ستين سنة مرّت علينا في اللجوء، كنت أدفع بأولادي إلى ميدان العمل من أجل فلسطين، وفي الوقت نفسه أحميهم من المغامرات التي ضيّعت المكان والزمان. وأمام الخطر كنت أحتسب الأولويات عملاً بالمثل الشعبي «قضا أهون من قض»ا:
السفر أهون من التهجير
التهجير أهون من الحصار
الحصار أهون من الأسر
الأسر أهون من الموت
الموت أهون من الذل
السفر.. التهجير.. الحصار.. الأسر.
مررت بكل هذه التجارب لأحمي أبنائي الخمسة من الموت قبل الذل، فوصلنا إلى ما نحن عليه الآن؛ السفر..
سافروا جميعاً، وبقيت هنا أُلملم ذكرياتهم، وأتابع مصالحهم.. هم الآن يحملون جنسيات مختلفة في المهاجر، لكنهم اشتروا منازل في لبنان ليظل لهم موطئ قدم في مكان قريب من فلسطين. أما أنا فلأنني ما زلت أحمل هوية لاجئ فلسطيني، لا أستطيع أن أتملك موطئ القدم هذا.
وتحوّلتُ، بعد كل هذا العمر، إلى معقّب معاملات لأولادي وأحفادي هنا، وأنجز أوراقهم ووثائقهم «الرسمية!»، ليس للحفاظ على مواطنيتهم هنا، بل على إثبات لجوئهم إلى هنا، في هذه البلاد التي غادروها مكرهين إلى جهات العالم. ليحصلوا على فرصة عمل أو تملّك أو حياة كريمة!♦