الجزار

مجدي السماك

عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا 

[email protected]

ذات يوم كان محمود في حاجة إلى قطعة لحم، وهو من زمان يتمنى نيلها، وهذه ليست أول مرة يحتاج فيها محمود إلى لحم. البعض في الحارة يظن أن محمود رجل أهبل ومخبول، وبعض آخر يقول أنه وقح وقليل أدب.. وبعض ثالث يراه عاقلا ورزينا، وفي رأيهم أن الدنيا لا تأتي معه كما يرغب، حتى أنها لا تأتي معه كما أقل مما يرغب، مهما حاورها وداورها.. فتدفعه الظروف أحيانا إلى التصرف بغرابة تأخذ شكل النكتة، أو يأخذ تصرفه شكلا جنونيا عاقلا، ومرات تأخذ شكلا عاقلا مجنونا. وهو مشهور بهذا ويعد من أساطين هذه السلوكيات المتهورات المجنونات العاقلات.

ذهب محمود إلى دكان جزار في حارة بعيدة، كي لا يعرفه احد هناك، ووقف واجما قرب الجزار إلى جهة اليمين، وعلى يسار الجزار كان يقف كلبا متسخا شكله القذر يشي بأنه أجرب، وهيئته تدل بوضوح على أنه أحد كلاب الشوارع الضالة، وقد لطّخ الطين معظم جسده الرقيق، وكان جسده هافتا من الجوع.

وضع الجزار قطعة لحم كبيرة على خشبة ضخمة، وراح يقف على أصابع قدميه ويمط جذعه إلى أعلى، ويرفع ذراعه عاليا في الهواء، ثم يهوي على كومة اللحم بالساطور الكبير ليقطعها، ويفصل اللحم عن العظم.. ثم بعد لحظات توقف الجزار فجأة ليستريح ويسترد أنفاسه، وتلفت حوله برهة، ثم زجر محمود ليبعده، وشتمه وقرّعه بكلام غليظ.. ثم استدار الجزار ونهر الكلب، وضرب قدمه بالأرض ليخيفه ويبعده.

ظل محمود واقفا ينتظر بفارغ الصبر أن تفلت هبرة لحم نحوه، ليلتقطها ويهرب، أو إذا أمكن له أن يغافل الجزار وينتشها.. والكلب أيضا كان ينتظر خصلة لحم صغيرة يخطفها، وكانت أعصابه محروقة.

وكلما اقترب الكلب خطوة كان الجزار يزجره ويهشه.. فيبتعد مذعورا قفزتين أو ثلاث إلى الخلف، وما يلبث ان يعود إلى مكانه ويلهث، وكان في لهاثه مشقة، وفي المشقة جوع.. وبات واضحا أنه اعند من ذباب الشتاء البليد، الذي تقول له كش فيقول لك كش أنت.

ومحمود أيضا كان بقدميه الحافيتين مرة يقترب ومرة يبتعد، ويمصمص شفتيه، ويترك فكه السفلي يرتخي في بلاهة وسذاجة قصوى، ونظراته الثابتة الجائعة لا تتزحزح عن كومة اللحم الكبيرة التي تتقطع تحت ضربات الساطور، وكان في نظراته حرمان طال أمده، وفي الحرمان عذاب يكبر لحظة عقب لحظة.. ويتضخم يوما بعد يوم.  

ظن الجزار أن محمود يسخر منه، لأن محمود لا يستطيع مهما بذل من جهد أن يطبق شفتيه على الآخر كي يحكم إطباقهما، بسبب أسنانه الطويلة جدا، فكل سن منها أطول من عقب السيجارة، فراح يوارب فمه بشفتين متهدلتين تصنعان فرجة تتوسط وجهه الطويل الأسمر، فتظهر أسنانه الصفراء واضحة فيبدو كأنه يضحك بسخرية، رغم الألم الذي يكوي قلبه وينتشر في جوفه كالحمم المكبوتة في بطن الأرض.. فلحق به الجزار عدة خطوات كي يمسكه ويضربه ليربيه ويعلمه كيف يحترم الناس ويتصرف بأدب. في هذه الأثناء استغل الكلب الجائع الفرصة، وخطف بفمه قطعة لحم كبيرة وجرى هاربا بها إلى بعيد، وتفجرت في عينيه موجة فرح عارمة اجتاحت جسده النحيل وهزت في طريقها ذيله الطويل.

ما إن رأى محمود هذا المنظر حتى طار عقله، وبلا أي تفكير أطلق ساقيه الرفيعتين للريح، وراح يجري وراء الكلب يطارده، كي ينتزع من فمه قطعة اللحم التي داخ قلبه وعقله من اجلها، وتوّرمت قدماه من طول الانتظار. كان محمود يجري مع شعور داخلي بأن الكلب سرق حصته ونصيبه الذي كابد المّر من اجله، وأحس أن الكلب انتزع حقه من مال الأغنياء، وأحس أيضا فيما أحس بأن الكلب ينافسه في الحياة.. فجن جنون محمود.

استمر الكلب يجرى مطبقا فمه على قطعة اللحم، ومحمود يجري وراءه ويلهث.. إلى أن وصل الكلب إلى الشارع الرئيسي، فتفاجأ الكلب وتوقف مرتبكا ومذعورا لا يعرف إلى أين يهرب، بسبب مرور سيارة الوزير وحولها موكب طويل وطابور من السيارات والدراجات النارية، كلها كانت مسرعة مثل القذائف، وكان الصفير قوي وحاد يفسخ الآذن.

انتقى الكلب الهارب شارعا فرعيا ودخل به على الفور، وراح يقفز فوق السيارات الواقفة منتظرة مرور موكب الوزير.. ودخل وراءه محمود مثل الريح، واضطر هو الآخر إلى القفز من فوق السيارات.

لحق محمود بالكلب وهجم عليه باستماتة، ودخل في عراك شرس لا هوادة فيه مع الكلب، وكان محمود مصمما على الانتصار.. يا قاتل يا مقتول.

وصار كلاهما يقلب الآخر بكل قوته، فتارة يكون محمود أسفل الكلب، وتارة يكون الكلب تحت محمود.

وصارت قطعة اللحم تنتقل بالتناوب ما بين فم الكلب ويد محمود، فتهدلت لكثرة النتش والنهش، وغطاها التراب، فتبهدلت.

ولكن لأن مخ محمود أكثر ذكاء من مخ الكلب، استطاع استدراجه إلى زاوية قريبة، ثم هجم وخبط رأسه بحجر له حافة حادة، ثم داس بقدمه على رقبة الكلب، ثم التقط عصا.. فهرب الكلب مذعورا.

شعر محمود وكأنه انتزع قطعة اللحم من فم أسد.. فغسل قطعة اللحم وأزال ما عليها من تراب. لم يكن محمود يخشى أن تكون قطعة اللحم رزقا أو مالا حراما، لأنه لم يسرقها من الجزار أو من أي إنسان. لكنه كان يخشى من عيون الناس، فهو يخاف كثيرا من الحسد، وفعلا كانت عيون الناس مسلطة على قطعة اللحم، وكان حساده كثيرين.

بالكاد التقط محمود قطعة اللحم من ماء آسن، بعد أن سقطت فيه من يده.. حتى وجد يدا تمتد من خلفه وتخطف قطعة اللحم وتمضي بثقة على مهل.

أدار محمود وجهه ليجد أن الخاطف هو الجزار.. فتوجه إلى حارة أخرى بعيدة ليبحث عن قطعة اللحم.. وهو يردد: ليت أنني اقتسمتها مع الكلب.