القلب الزاكي
(من رسائل أم سليم إلى مسلمات القرن الحادي والعشرين)
فاطمة محمد شنون ـ سورية
إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ولو أتيح لأولئك الذين لا يتعهدون قلوبهم بالتهذيب والتزكية أن يذوقوا حلاوة صلاح القلب لأدركوا أنه أكبر كنز جدير بالحرص عليه .
لقد كان لي قلب متعب ، يعجبه أن يسلك بي كل مسلك ، يجشمني أبداً عناء الجري بين يديه لأضمن لخطواته الأمان . وقد حبب إلي التجمير واسعاً فأرهق ذراعيّ ، ولولا ما كان من حلاوة الإحساس بالإنجاز ، ومتعة النجاح .. في تثقيف وتزكية الذات لفتَّ ذلك في عضدي ، ولنكصت على عقبي ، فما كان قهر النجاح باليسير أبداً ، ولكن من رحمة الله لعباده أنه غالب على أمره ، وأن الحق ينصر من ينصره .
هكذا كنت أعيش مع قلبي سعادة موصولة لا تنقضي نعماؤها .. هكذا امتلكت مفاتح ذلك القلب ، وأمسكت بأعنته فلويته عن مدن الألم إلى ممالك السكينة والرضا .. فبرزخ الفرح العميق عمق الإيمان واليقين .
كان ذلك عندما فقدت أبي ، وعندما استشهد أخواي ، وعندما جثم كيد يهود على صدري ، وتحول إلى كابوس مستفز قاهر .. وكان ذلك عندما طالت معاقرتي للشرور ، واللهفة في عيني أبي طلحة على ولد يكون له مثل أنس لي ، بعد أن شوّلت طفولة أنس الرائعة ، وراح ينزع نفسه من أحضاننا شيئاً فشيئاً إلى عالم الحِلم ، الذي باكرته به صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وطفقت كل شهر على امتداد سنوات طويلة أشارك أبا طلحة ذلك الطعام المر الذي يتجانس فيه الألم والخيبة ، والصبر والأمل ، ثم لا يلبث كلانا أن يسيغه بكأس من الإيمان والرضا ، تظل تعلة إلى مثل يومنا هذا من شهرنا القادم .
واطلع الصبر من تربة الرجاء غراس الأمل ، فكان أبو عمير الفرح الذي انتظرناه طويلاً ، وأخذ على أبي طلحة لبّه ، وإن لم يشغله قط .. عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في موقعة ولا غزوة ، فكان الخير كله . ودرج بين الأحضان الثلاثة مدللاً ناعم الطفولة ، مجاب الحاجة كائنة ما كانت . فما كان البيت ليخلو من وسيلة لهو تمتعه ، أو طعام يلذه ، أو نزهات يحبها ..
وإن أنس لا أنس .. وقد دخل علينا رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ، وكان صغيري واجماً لموت عصفور له ، ولاحظ ذلك سيد الخلق ، فراح يحاول إخراجه عن صمته وحزنه مداعباً ممازحاً ..!
وسقط صغيرنا ذات يوم مريضاً ، فكنا نلازمه .. إلا أن يشغل أبا طلحة شهود الصلاة ومجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ، فلا يلبث أن يرجع لهفان يسأل عن الصبي .
وذات ساعة كنتها وحدي معه ، يعض القلب خوف ما تأتيه اللحظات ، ويحتضنه التسليم واليقين ، فلا تدري : أوجه الحزن ما ترى أم وجه الرجاء ؟ ولا تدري أتسير بك خطوتك إلى ما وراء تلك الحجب الكثيفة التي تطوق على النظر الجهات الست ، أم ترجع بك إلى مجهول خلفته ، فأكله النسيان حتى لم تعلم عنه شيئاً !؟
وفجأة تسمر الزمن .. ثم انطفأ وتلاشى على أهداب الصغير المتعانقة ، وسقطت سكينة تصلصل في هوّها أجراس بعيدة واجمة الصدى .. وتحولت الظلمة إلى بريق فضي ندي ، وأحسست كأن ملائكة السماء كلها تقبل مؤانسة سعيدة باسطة أذرعها .. ورأيت أبا عمير ينهض إليها ، وكان ذا أجنحة مثلها .. كان يضحك سعيداً ، وهو يرتمي بين الأذرع الحانية .. ساعتئذ غمر المكان فرح .. وما هو من فرح أهل الأرض !.
وانحدرت دمعة كبيرة غريبة تقبل خدي .. وسمعتها تهمس لي : أنا رحمة الله .. وفار من القلب رضا ملأ الجوارح كلها ، وسال .. فكان لجة من الطمأنينة غمرتني ، حتى لكأنها الهواء الذي يغمر كل شيء .
وتحول الهم إلى ذلك الذي لن يلبث الباب أن يفتح عنه ، ليهرع بلهفة الأب إلى مضجع ابنه ، كما اعتاد أن يفعل ، وأشفقت عليه ، وضننت بقلبه أن تفتح الفجيعة في جدار ثغرة للشيطان ، فنهضت بهمة إلى متابعة مهمتي الأبدية : تعهد جذوة الإيمان في بيتي ، وكان الأمر هذه المرة يحتاج إلى صبر يوازي إيماني ويقيني والتزامي .
ما زلت أشك في أنني ليلتها كنت امرأة واحدة ! فتلك التي استقبلت زوجها لدى الباب باسمة ! وتلك التي صرفته عن رؤية ولده .. مدعية الحرص على إغفاءة تبشر بالشفاء ! وتلك التي راحت تعلله بما تهيئه الزوجة الودود لزوجها عندما ينام الصغير ، ويخلو لهما المضجع !.. تلك المرأة لم تكن أم سليم الثكلى ...! التي يتمدد صغيرها جسداً هامداً وراء ستار المضجع !.
كبرت حلاوة الصبر ، وحبب إلي أن أجعلها حكاية امرأة مؤمنة .. لا تبلغ من يأتون بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة فحسب !..
بل تبلغ كل من كان له قلب .. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها !.
أي مجد هذا يا صغيري الذي لم يزد على اللعب بفراخ العصافير !؟
هو ذا حلمي .. أن أقطع من الشوط أقصى ما يمكنني الإيمان ، لأثبت أن الإيمان يفرخ على من يفتح له قلبه قوة لا حدود لها .
وكان لابد أن تسفر الحقيقة قبل أن يسفر الصباح :
ـ ما تقول يا أبا طلحة في جيراننا .. يطالبهم أصحاب عارية عندهم بعاريتهم فيأبون عليهم !؟
ـ لا والله ما أنصفوا ! وكان عليهم أن يردوها شاكرين .
ـ فقد كان أبو عمير عارية .. الله استردها !.
وذهل أبو طلحة لحظة .. ثم أطرق !..
أحسست أنه يتماسك ليتم شوطاً بدأته .. إنه لن يرضى أبداً أن أغلبه على الصبر !.
وقالها فعلاً وهو ينطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـ لأ والله لن تغلبيني على الصبر !.
وعاد أبو طلحة بعد قليل يبشرني :
ـ أتدرين ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟ قال : " بارك الله لكما في ليلتكما " !..
وأثمر الدعاء الطيب .. وعاد أبو عمير .. عاد بعد أشهر تسعة ، وسماه نبي الرحمة : عبدالله !