معلمتي
حماد صبح
1
قلت بعد عبارات العزاء التقليدية : رحمها الله !
فقال مادا يده إلي بفنجان القهوة : كلنا على نفس الطريق .
_ أعانك الله على فراقها ! الوحدة صعبة .
فحدق في رافعا حاجبيه ، وتبادل ولداه النظر ، وتشاغل هو بدفع خشبة صغيرة من طرف الكانون إلى قلب النار .
لم يخفَ علي أنهم استغربوا كلامي ؛ فلم استغربوه ؟!
وخرج أصغر الولدين ، وبعد خروجه بدقائق غمرتني غيبوبة ! رأيت أمه في باب الغرفة ! من مات إذن ؟! في من عزيت ؟!
وفي شبه الحلم وتوتر الحرج سمعتها تقول : كيف حالك يا محمد ؟ من زمان ما رأيناك !
وانبعث صوتي من مكان لا أعيه : كيف حالك يا أم إبراهيم ؟
بمن أعزيها وكنت أحسبني عزيت فيها ؟!
وفطن أبو إبراهيم إلى أن لدي التباسا حول من مات في العائلة ، فابتسم وقال : مريم هي التي ماتت .
صدمني ما قاله وفتح قلبي لموجة حزن كبيرة ، فقلت مستعيدا شيئا من وعيي : رحمها الله ! سمعت خلاف ذلك .
2
سمعت أن أم إبراهيم هي التي ماتت ، وأنه قد مضى على موتها أربعة أيام . إذن انتهى وقت العزاء . هم جيران قدامى لنا . رحلنا عنهم منذ عشرين عاما . وبعد المكان ، مع أنه في حالنا لم يزد على ثلاثة كيلومترات تقريبا ، يخفف العلاقات ويقلل الأخبار إلا صدفة . أحزنتني وفاة مريم . كانت معلمتي في الصف الأول قبل رحيلنا من جوارهم . وكانت تحسن معاملتي لتفوقي ولكوني ابن جيرانهم . كان في معاملتها لي نفحة أمومة مؤثرة . ومثل بعض المعلمات خلفها قطار الزواج ، فظلت تعيش مع عائلة أخيها أبي إبراهيم . وعندما تزوجت ، وكنا في الشتاء ، أهدتني معطفا كاكي اللون بلا زغب ، تعودت ألا ألبسه ، بحافز المحافظة عليه لكونه هدية منها ، إلا إذا اشتد برد الشتاء . ولعادتي تلك صار زملائي المدرسون يتمازحون بأن لبسي له هو العلامة الأكيدة للشتاء ، وأن كل أنوائه لا تصلح توكيدا لمجيئه .
3
ضحى اليوم التالي ، قطفت من حديقة البيت الصغيرة إضمامة زهور ، وقصدت المقبرة التي دفنت فيها . وهي مقبرة جديدة صغيرة تبرع بأرضها محسن .لن يصعب علي تمييز قبرها من القبور القليلة . دلفت من جوار أثلة ثلاثية الفروع . وبعد خطوات سمعت صوتا يسأل : ماذا تريد ؟!
بحثت عن مصدره ، فلمحت شابا يعتلي سطح بيت غربي المقبرة . قال : آ ! أستاذ محمد .
وفي لحظة كان عندي .
قال : المقبرة في حراستنا . تعرف التي دفنت من أيام ؟
_ كانوا جيراننا . وهي معلمتي في الصف الأول .
وضعت الباقة على قبرها ، وقرأنا الفاتحة على روحها ، ومضيت إلى المدرسة . وحين رآني بعض زملائي الجالسين في زاوية في ساحة المدرسة انتظارا لبدء اليوم المدرسي بعد أن يخرج تلاميذ الفترة الصباحية ؛ وقف أحدهم ، وهو قصير ساخر ، وقال عالي الصوت : ما للشتاء جاءنا مبكرا هذا العام ؟!
كنا في منتصف أكتوبر ، وكنت لابسا المعطف الذي أهدته لي معلمتي العزيزة الراحلة مريم ؛ من تسع سنوات .