الطقطقة والهملجة
عَرَفَ نفسَهُ أنها محاصرةٌ، ولن يستطيع أن يكمل دراسته في الجامعة لظروف قاسية كانت قد أحاطت به. وكانت أشدُّ قسوةً من هؤلاء. كان يدرس في قسم الهندسة في جامعة تل أبيب. فهرول إلى بيته متحدّيًا ومتوعّدًا هذا الفقر الذي يصيب الناس، وذاك البؤس اللئيم الذي يتغشّاهم..
- أعرّفك بنفسي. أنا إنسان وفاعل خير.
-أهلاً وسهلاً بك.
- لماذا لا تريد إكمال مسيرة تعلّمك يا "عبد العزيز"؟
- بسبب الفقر يا سيدي. الفقر. قاتَلَ الله الفقر! كاد الفقر أن يكون كفرًا. أي جامعة يمكن التعلّم فيها ونحن في هذه الحالة؟ أنت تعلم أنني يتيم الأب ولا بدّ لي من العمل من أجل إعالة إخوتي الصغار.
دردش الرَّجل قليلاً مع أصحابه عبر برنامج "الواتس أب" الجماعي، ثمّ نظر إليه نظرة شفقة وإحسان وقال:
- أنا على استعداد تامٍّ لأقدّم لك يد العون والمساعدة حتى تنهي دراستك الجامعية.
- بارك الله فيك يا سيدي.
تعلّم في قسم الهندسة في الجامعة وبذل جهدًا وحصل على شهادة وراح يعمل مهندسًا ومقاولاً. التقاه مساء ذات يوم قرب البلديّة ينزل من سيارة فارهة لا يركبها إلا الذين أنعم الله عليهم. فبادره بالسؤال:
- مرحبا. هل تتذكرني يا "عبد العزيز"؟
- من أنت؟ أنا لا أتذكّرك.
- أنا الذي جئتك إلى بيتك وساعدتك ماديًّا ومعنويًّا لتكمل دراستك الجامعيّة.
- نعم!! لم أسمع ما قلته جيّدًا! أَسْمِعني إياها مرة أخرى من فضلك! ساعدتني مادّيًّا ومعنويًّا! أنا لم يساعدني أحد أبدًا. وما مددتُ يدي يومًا لأحد؛ لأنني أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، أنا الحجاجُ مذ ولدتني أمّي. ثمّ أنا لا أتذكرك. وفي اعتقادي أنك إنسان متطفِّل. اغرب عن وجهي حالاً وإن نظرت إليَّ مرّةً أخرى، فلسوف أمسح صورتك عن وجه الأرض.
نظر الرجل إليه نظرة اشمئزاز وبلعَ ريقَهُ وقال في نفسه:
أي ناكرٍ للجميل هذا؟ يريد أن يمسح صورتي مثلما لقد مسحها من ذاكرته. أيّ لئيم هذا! كنت أظنه إنسانًا فوجدت فيه بغلاً ثم أنشد يقول: "إنه وإن طقطقتَ به البغلَ، وهملجْتَ به البرذون، إنَّ ذل المعصية لا يفارق قلبه، أبى الله إلا أنْ يُذِلَّ من عصاه"...