السكرتيرة التي طلبوا أن أسلخ جلدها
من الحياة اليومية لمواطن سوري
الجزء الأول
قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
وكما ذكرت في قصص سابقة، فقد عملت قبل سفري في الثمانينيات كمهندس متدرب في مؤسسة عسكرية تنفذ مشاريعاً هندسية، وتم تعييني رئيساً لدائرة في فرع المؤسسة في إحدى قرى الغوطة الشرقية.
للقراء الذين لايعلمون مدى هيمنة العلويين على مفاصل الدولة في سورية، فكل وزارة أو شركة أو مؤسسة تمثل بحد ذاتها نموذجاً حياً يجسد تلك الهيمنة. ففي المؤسسة التي كنت أعمل فيها مثلاً، كان المدير العام وغالبية رؤساء الأفرع والمدراء من أصحاب القرار وكذلك كافة ضباط الأمن من (الطائفة الكريمة). وإذا لم يكن أحد هؤلاء واحداً منهم، فيكون حتماً معاونه والذي يرافقه كظله ويكون الآمر الناهي الحقيقي. مديري المباشر لم يخالف هذه القاعدة، وهو لم يقبل في الأصل أن أكون في مديريته إلا بعد أن أحضرت (واسطة) أجبرته على ذلك، فقبل مرغماً ولكنه لم يعارض كثيراً باعتبار أن فترة عمل المهندسين المتدربين قصيرة وبالتالي فكان يعرف بأني غير متمسك بالوظيفة ولا (مشرش) فيها مثله. كان من المعروف أن فرع المؤسسة في تلك القرية، وكونه بعيداً نسبياً عن المديرية العامة، فكان ينظر إليه كالمنفى، ويفرزون إليه المهندسين والموظفين (المغضوب عليهم) أو (الغير مرغوب) بهم، وبالتالي فحين تم فرضي على مديريته، قام مديري بتحويلي إلى هناك بحجة (المصلحة العامة) وعدم وجود (شواغر) إلا فيها، وذلك بهدف تكريهي ودفعي لأن أعود من حيث أتيت، وفي بنفس الوقت لايغضب (واسطتي) باعتباره قبل بتعييني عنده. من جهتي، فلم أفكر بتلك الطريقة، بل على العكس، فقد أحببت ذلك المكان لبعده عن العاصمة وضجيجها وهوائها الملوث وأيضاً عن المديرية العامة وأجوائها العفنة والمشحونة باستمرار بقصص (القيل والقال). كان يعمل تحت إشرافي في الدائرة حوالي إثنا عشر موظفاً وموظفة، نصفهم أيضاً من (الطائفة الكريمة)، وللأمانة فقد وجدت تعاوناً صادقاً من بعضهم ومشاكسة وعدم تعاون من البعض الآخر.
تبدأ القصة بعد عدة أشهر من مباشرتي للعمل، حيث كنت قد اكتسبت سمعة بأني لاأجامل أحداً ولاأتهاون في الأمور الوظيفية وأطبق النظام إلى حد التشدد، لدرجة أن بعض الموظفين (التنابل) في الدائرة راحوا يشتكوني لرئيسي المباشر حتى (أخف) عنهم، كما وسمعت بأنهم كانوا يطلقون علي لقب (الحنبلي) وكان هناك من يتندر بأن بعض المدراء باتوا يهددون موظفيهم بنقلهم إلى دائرتي فيما إذا لم ينجزوا الأعمال المكلفين بها دون تأخير. اتصل بي رئيسي المباشر في أحد الأيام من المديرية العامة، وكان الغضب ظاهراً في صوته ولهجته، وقال لي بالحرف: مهندس محمد (حيث كنت أعرف في المؤسسة باسمي الأول)، سأرسل لك سكرتيرتي (فلانة) لتصبح موظفة في دائرتك اعتباراً من اليوم، وأريد منك أن لاتخصها بأي معاملة خاصة كونها سكرتيرتي، بل أريد منك أن (تسلخ جلدها). ثم نعتها بأبشع الألفاظ وأنهى الحديث. بصراحة لم أتفاجأ بهذه المكالمة، فمن الطبيعي في بلد ديكتاتوري مثل بلدنا أن تصدر تصرفات حمقاء ومضحكة و(صبيانية) كهذه من مدراء ووزراء، كون هذه الظاهرة موجودة حتى في القصر الجمهوري، وحسب مايقول المثل الشعبي (إذا كان رب البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت الرقص). ولكن مافاجأني كان سبب انقلاب المدير المفاجئ وبهذه الصورة على سكرتيرته والتي كنت أعلم أنها شغلت ذلك المنصب لسنوات طويلة.
ربما إذا أعطيت توضيحاً مختصراً عن خلفية المدير وسكرتيرته إياها فقد يفيد في فهم ماحصل. كان هو في العقد السادس، وكان رائداً متقاعداً من الجيش من سلاح المدرعات وشارك (على ذمته) في مسرحية (حرب) تشرين وأصيب فيها، فكان أن كوفئ بتعيينه في ذلك المنصب حيث يعمل تحت إدارته مايقرب من الخمسين شخصاً مابين مهندس ومحاسب وموظف وسكرتيرة، وهو منصب لاشك يتطلب خبرة ودراسة في علم الادارة لاتتوفران بالتأكيد برائد متقاعد والذي يفترض أنه لايجيد سوى التعامل مع الدبابات، هذا إن كان يجيد ذلك حقاً. والجدير بالذكر أن الرجل والذي كان راتبه لايتجاوز الثلاثة آلاف ليرة حينها، كان عنده بيت ملك وسيارة مرسيدس خاصة، غير سيارة المؤسسة البيجو 504، بالاضافة لمزرعة كان دائماً يتباهى بذكرها أمام الجميع (على الطالع والنازل)، تماماً كتباهيه على الدوم بالحديث على علاقاته الحميمة مع شخصيات كان يطلق عليها أسماء مثل (أبو ليلى وأبو عليا وغير ذلك) حيث كان دائماً يتبرع بتعريفهم بأن هذا رئيس الفرع رقم كذا والآخر رئيس الفرع رقم كذا، وذلك طبعاً لارهاب مستمعيه وإعلامهم بأنه، صحيح (متقاعد)، ولكنه (مدعوم).
الجزء الثاني والأخير الاثنين القادم