في مركز الشرطة

الواحدة ليلا . برد يناير يقتحم ما يستطيع اقتحامه من جسده المنهك . الذهن منهك ، والأعصاب منهكة . في موجات الإنهاك ومضة غبطة تتلألأ عنيدة صامدة : كانت انتخابات رائعة منزهة . تجربة لها ما وراءها . يستعيد ما قاله للوفد الفرنسي الذي زار اللجنة . رأى السرور في وجوه أعضاء الوفد وهم يؤمنون على صحة ثنائه على نزاهة الانتخابات مثلما يوحي به الجو العام المحيط باللجنة . كل شيء هادىء ، كل شيء منظم ، كأن الناس ليسوا حديثي عهد بثقافة الانتخابات . يسير موهون  الخطا . يشد طرفي كوفيته الحمراء حول عنقه لتأتلف مع ياقة معطفه في التصدي لتسللات البرد . يلحق به ويتخطاه ويقابله الناس أفرادا ومثاني وجماعات . يلغطون ويتناقشون . تتقافز من أفواههم كلمات " الانتخابات " " حماس " "فتح " . وحده يسير . مشاهد ووجوه من ماض ناءٍ تحاول أن تطفو . يصدها على توقه إليها . مشى سنين في هذا الشارع _ الذي تبدلت كل ملامحه _ في الابتدائية والإعدادية قبل الترحل إلى منطقة سكن جديدة . أحداث الليلة والإنهاك الطاغي يوصدان الباب في وجه تدفق مشاهد ووجوه السنين الخوالي . قلق في صدره يزيح حتى أحداث الليلة : سيمضي بقية الليل في البرد في شوارع المدينة . لا يستطيع العودة إلى البيت . الطريق المباشر إلى بيته مغلق من سنين لمحاذاته لمستوطنة كفار داروم . والطريق الالتفافي  لا يمكن سلوكه في هذه الساعة. لا سيارات في موقف المنطقة في المدينة الآن . ربما تظهر أولاها في السابعة ، وهو لا يستطيع المشي سبع كيلو مترات في هذه الحال من الإنهاك . ولو استطاع لصار صيدا سهلا لحراس المستوطنة . سيطلقون عليه النار فور بروز شبحه في دائرة أجهزة الرؤية الليلية . اختار في ذهنه مصطبة على صورة نصف دائرة تتصدر محلين تجاريين في مركز المدينة ملاصقة لرصيف الشارع . تستيقظ في خياله حادثة وقعت ذات ضحى بعيد : كان حديث تخرج في الجامعة . قدم إلى أحد المحلين جنديان إسرائيليان من مقر الحاكم العسكري المواجه للمحلين في الجهة الغربية . أمسك أحد الجندين  جريدة ، وقال له مستاء : انظر ماذا يفعل المخرب عرفات !

ونظر إلى الموضع الذي أشار إليه الجندي . خبر وصورة عن عملية فدائية في شمال فلسطين .

رد على الجندي : أبو عمار ليس مخربا .

فحملق فيه الجنديان باستنكار ، وتناظرا ، وعادا يتفحصانه صامتين .

قال الجندي الآخر : أبو عمار مخرب .

قالبا حرف الراء غينا .

رد : أبو عمار رجل سلام . نحن نريد السلام . أنت تحمل بندقية ، وأنا أحمل كتابا . أيهما علامة سلام : الكتاب أم البندقية ؟

ورفع الكتاب الذي معه .

قال الجندي الأول : أنت ما " بتفهم كويس " .

فتدخل صاحب المحل بصوته الجهوري العريض المنبثق من تكوينه البدني المتين : هذا معه شهادة من الجامعة يا خواجه ! كيف تقول إنه لا يفهم ؟!

سيجلس على المصطبة حتى يطلع النهار . رفض كل عروض المبيت من المعارف في ضاحية المدينة حيث مقر لجنة الانتخابات البلدية .خطوات تقترب وراءه ، والتفت حول عنقه ذراع . قبله صاحبها قائلا : ستبيت عندنا .

استقرى في  ضوء الشارع الواهي وجه صاحب الذراع . شاب من نفس منطقته . جار بعيد قليلا . ما بينهما لا يتجاوز التحية والسؤال العابر عن الحال عند الالتقاء في أحد شوارع المنطقة في آنات متباعدة . كيف يعده بالمبيت والحال نفس الحال ؟! يعرف أنه ملازم مخابرات . تراه يقصد ... ؟ بعد وجيز وقت بلغا المكان الذي نوى قطع بقية الليل فيه .

قال للشاب : تصبح على خير .

ومال إلى المصطبة الإسمنتية التي يقدر أنها تشربت من برودة ليل يناير الكثير ، فاحتج الشاب متعجبا : تجلس في البرد ؟!

وضحك مضيفا : ستبيت في المركز . أنت _ لا مؤاخذة _ سجين الليلة . نسجنك ولا تموت لنا بردا .

قال مقتربا من المصطبة : سأجلس هنا .

_ لا يمكن . امشِ ! تعال !

_ لا أريد أن أحرجك مع أحد .

_ تحرجني ؟! أعرف أنك تستغرب الأمر . عادي في ظرف مثل هذا الظرف .

حدث ما قدره  عندما سمع " ستبيت عندنا " . واتجها إلى مركز الشرطة وغيرها من الأجهزة الأمنية . الناس يسيرون أمام بوابته الشمالية  صاخبين جالبين عائدين من مقر الانتخابات ، وهو مدرسة ثانوية للبنات . في المدينة مقر ثانٍ . صعدا إلى الدور الثاني ، ودفع الملازم باب غرفة فانفتح ، وحياه ومضى . في الغرفة سريران ، أحدهما عند جدارها الجنوبي ، والآخر عند جدارها الشمالي . ارتمى على الشمالي . موقف غريب حقا استصعب التكيف معه نفسيا على ما  به من إنهاك وحاجة ملحة للنوم لطول عمله في تسجيل  الناخبين . يبيت في مركز شرطة وأجهزة أمنية ؟!  لم يبت عمره في مركز شرطة . المتهمون يبيتون في مراكز الشرطة . ولام نفسه على هذه الخواطر المنكدة  وإن استوجبها . ودوت مكبرات الصوت تعلن فوز مرشحي حماس . وتتابعت أصوات بلا مكبرات تهتف للفوز . وأطل على الشارع الذي يمر من أمام المركز . جو احتفالي رائع صاخب . بدت له  من النافذة أضواء كتل المباني والبيوت وما بينها من النخيل في جنوب المدينة ، وبين غيوم الليل المتفرقة  لاح قمر يسري  نحو أفق البحر قبل أن تفاجئه أضواء الفجر . تمدد على السرير ، وسوى وضع المخدة . يا للبلاء ! دهمه تساؤل : كم إسرائيليا نام على هذا السرير ؟ كان المركز مقرا للحاكم العسكري الإسرائيلي وما يتبعه من شرطة وأجهزة أمنية قبل إعادة تموضع قوات الاحتلال وما معها من أجهزة المخابرات بعد اتفاق أوسلو . في البداية سوقت منظمة التحرير  الاتفاق إعلاميا بأنه سيؤدي لانسحاب إسرائيلي كامل من غزة ، وبعد أسابيع انكشفت حقيقة كونه  إعادة تموضع لها داخل المستوطنات وعلى أطرافها . وأخلي مركز الشرطة هذا وفق ذلك الاتفاق . وهكذا فاز حسين بهذه النومة العجيبة المفاجئة مثلما فازت حماس بدورها بالانتخابات .

***

يسمع دقا على باب سور البيت الذي عاد إليه قبل ساعة . ذهب إليه متثاقلا . جاره أبو عواد .

سأله : ماذا حدث ؟! سمعنا أن الشرطة اعتقلتك . رآك ولدي محمود تخرج من المركز في الصباح . حدث شيء معك في الانتخابات ؟

وسوم: العدد 628