أم عودة في السوق
تنظر متفحصة _بقدر ما تسعفها عيناها الواهنتان _ من نافذة السيارة المسرعة . لم ترَ شيئا مما عرفته يوما شرقي الطريق أو غربيها . كانت أشجار التين والعنب والجميز على الجانبين . كل ما تراه الآن بيوت وبعض محلات . الناس كثيرون . في الماضي كان يمكن أن تبلغ المدينة ولا يقابلك إلا عدد قليل من الناس . أما السيارات فلا تمر في الطريق الترابي أي سيارة إلا في القليل المتباعد . اليوم الطريق مرصوف ، والسيارات تلاقيك وتلحقك وتتجاوزك . لا وجود للطريق القديم وما يكتنفه إلا في ذاكرتها وذاكرة لداتها في السن . وجود يغشيه الغموض والشحوب واختفاء كثير من المشاهد الصغيرة بعد ما يزيد على أربعين عاما عاشتها نازحة في الأردن وسوريا .
قالت لزوجة ابنها : يا بنتي ليست هذه دير البلح التي في بالي .
ابتسمت أزهار ، وظلت صامتة . لا تريد فتح نافذة حديث قد يصعب غلقها ، وقد تسرب ما لا تريد تسريبه من الآراء الغريبة لأم عودة . قال السائق : الحاجة من أين ؟
ردت بصوت دل على عسر تنفس : كنت في سوريا يا ابني . الحرب لم تترك أحدا في حاله .
_ احمدي الله أنك في غزة !
ذهولها من انعدام معالم ماضي الطريق يتوالد مع مسير السيارة . هذه أول سوق ثلاثاء للمدينة تذهب إليها بعد تلك الأعوام المتطاولة . تتذكر ذهابها إليها آخر مرة في وضوح ، وسبب الوضوح أن جنود الاحتلال أطلقوا النار في السوق بعد أن ألقيت قنبلة على سيارتهم المتوقفة في مدخل السوق الجنوبي . لم تصبر عن السكوت على ما رأته في مركز المدينة من انقراض تام لملامح المكان . قالت : والله صرت غريبة في بلدك يا اعتماد يا أم عودة . أين مركز الشرطة ؟!
فجاوبتها امرأة جالسة جوار زوجة ابنها : هدمه اليهود .
فقالت متحسرة : الله يهدمهم ! ما لهم شغلة إلا الهدم .
نزلت وسارت مع زوجة ابنها تتلفت مستنكرة مستهجنة . وفي أول السوق رأت صبية منقبة قاعدة على حافة رصيف الأسفلت الذي لا يكاد الباعة والمتسوقون يفسحون فيه موضعا لسيارة أو لسائر. أمام الصبية كومة حزم بقدونس صغيرة فوق بساط قماش أسود . سألنها أم عودة منحنية : ماذا تبيعين يمة ؟ بقدونس ؟
أجابتها الصبية : الربطة بشيكل .
_ وحقها كلها ؟
فوخزتها زوجة ابنها في فخذها تسألها : لماذا كلها ؟ تكفي ربطتان أو حتى ربطة.
فأمرتها : اسكتي ! هذه بنت . كيف تقعد في السوق ؟! يمكن يتسافل عليها بعض الشبان .
ولأول مرة ، منذ شهر ، منذ عودة أم عودة من سوريا ؛ أحست زوجة ابنها أنها لا تعرفها حقا ، وأن الغربة أعجزتها عن استيعاب ما داخل المجتمع من تحولات في القيم وأساليب الحياة . مازالت ترى في اشتغال الفتاة بالبيع في السوق مذمة وربما معرة . وجاملتها أزهار مضطرة فدفعت ثماتية شيكلات للصبية ، وأخذت حزم البقدونس متأففة متنكدة .
قالت أم عودة : متحيرة أين تذهبين بها ؟! أطعميها أرانبك !
وأذهلتها كثافة السوق وازدحامها . قالت : ماهذا ؟! هي القيامة قامت أم ماذا ؟!
وبسطت امرأة يدها إلى أزهار مستعطية ، فقالت لها : الله يرزقك يا أختي !
فقالت أم عودة : رزق عباد الله من عباد الله . أعطيها خمسة شيكلات ! هاتي !
فرمقتها المرأة المستعطية مستغربة آملة الحصول على خمسة شيكلات .
ونقبت مريم عصبية متوترة في محفظتها السوداء الصغيرة ، ولم تجد من الفكة إلا عشرة شيكلات ، فأحجمت عن إخراجها ، فقالت أم عودة لما استبطأتها : هاتي !
ولم تكن تميز قطع العملة الورقية والمعدنية هوية أو قيمة لحداثة عودتها إلى غزة . كل ما عرفته من العملة الإسرائيلية التي استعملت في غزة بعد الاحتلال تغيرت في سني نزوحها الطويلة .
وأرغمت مريم على إعطاء المرأة الشيكلات العشرة ،فابتعدت ممطرة الشكر والدعاء لها ، أما أزهار فأمطرت شرر الغضب المكبوت على أم زوجها ... المخبولة ، مثلما همست لنفسها .
يتعالى صوته في شيء من خنف الأنف : شاي ! شاي !
رأته أم عودة . في حوالي الخامسة عشرة . في نحافة قلم ، وسمرة بنغالي . في يده براد شاي وأكواب بلاستيك . لم يخب ما تخوفت منه أزهار حين سمعت صوته ورأته . استوقفته أم عودة ، وسألته سؤال تحصيل الحاصل : تبيع شايا يمة ؟ يا ويلي ! يمكن يتيم .
وسخن الدم في شرايين أزهار . ليتها ما أتت بها إلى السوق ! المخبولة .
وسألت أم عودة البائع : بكم برادك يا حبيبي !
وقاربت أزهار الانفجار في وجهها ، وبقوة قاهرة صدت غضبها ، وشدتها من يدها تأمرها بصوت في قوة اندفاعة الرصاصة : تعالي !
فأمرتها أم عودة : اتركي يدي ! فلوس ابني .
ونزعت يدها ، وسألت الشاب كأن شيئا لم يحدث : بكم برادك يا ولد ؟
تلفت الشاب مستغربا ، ورد : خمسة شيكلات .
وانصب أمر أم عودة بنزيناعلى حريق أعصاب أزهار : أعطيه خمسة !
فسألتها في هدوء فاجأها هي ذاتها : أين ستذهبين بالبراد كله ؟! تشربينه ؟!
فأجابتها في برود : سأريك .
وناولت أزهار البائع خمسة شيكلات . وبين ذهولها وذهول البائع وذهول من انتبه لها من البائعين والمتسوقين ؛ انسلت من بين بسطتي بائعين ، وأراقت الشاي في طرف رقعة أرض فضاء بين عمارتين ، وأعادت البراد للبائع وهو يقاوم ابتساما وكلاما لو لفظه لقال : من هذه المجنونة ؟!
قالت لها أزهار في انفعال تخطى الاحتراق : كلمة واحدة ! تعالي وإلا جعلتك فضيحة في السوق !
فسألت : لماذا ؟! مسكوني وأنا أسرق ؟!
_ تعالي !
واستغربت انقيادها لها فجأة . مضت بها إلى موقف سيارات المنطقة . رأت جارهم أيمن مع عدد من السائقين الذين ينتظرون خروج المتسوقات والمتسوقين لحملهم إلى المنطقة. نادته بإشارة من يدها ، فلم يتحرك وقال : الدور ليس لي .
فنادته صوتا ويدا : تعال !
قالت : خذ ...
وخفضت نبرتها : المجنونة إلى البيت !
سأل : خير يارب ؟
_ خذها ! سأدفع لك أجرة السيارة كاملة عند العودة .
وسوم: العدد 630