الفيلسوف والشرطي

أبو الشمقمق

قذف الشرطي بجواز سفر المواطن إليه بحدة ونزق . سقط الجواز على الأرض فالتـقطه

صاحبه دون أن يبدي احتجاجاً . مضى خارجاً من الرتل الطويل المؤدي إلى النافذة الزجاجية ذات الثقب الصغير،  وهو لا يتسع إلا لدخول اليد لتناول الأوراق .

- يللا اللي  بعده !

صاح الشرطي بصوت عال . تقدم رجل وقور وقد جاء دوره بعد وقوفه أكثر من ساعة . تأمله الشرطي من قمة رأسه إلى القسم الذي يظهر عليه .

كان الرجل متقدماً في السن ؛ أبيض الشعر ؛ يضع على عينيه نظارة طبية سميكة . يرتدي بزة عتيقة مع ربطة عنق غير منسجمة مع لون البزة .

- أوراقك !

مد الرجل بأوراقه عبر الكوة , تناولها الشرطي ثم أخذ يقلبها . ينظر تارة إليها وتارة إلى صاحبها - قال أخيراً وهو يلقي من يده قلماً بغضب :

- أوراقك ناقصة . هذا طلب الجواز وعليه الطوابع والصور .  وهذه الموافقة الأمنية مع دفتر خدمة العلم . وهذه بطاقة الهوية وصورة عنها . أين ورقة إذن سفر الموظف  ؟

- إنني غير موظف .

-هل تعمل عملاً حراً ؟

- نعم ، حراً . لكن ليس بالمعنى الشائع ، إنني حرٌ مقيد !

رمقه الشرطي باستخفاف وهو يهز برأسه :

-هل أنت متقاعد ؟

-ـ لا . غير متقاعد .

- يعني موظف .

-لا .

- لقد حيرتني . غير موظف وغير متقاعد . ولا تعمل عملاً حراً . ماذا تعني ؟ هل تلاعبنا عسكراً و حرامية  ؟  الله يرضى عليك ! من الصبح ونحن جالسون على هذا الكرسي . لقد أصبنا بالديسك وبح صوتنا وجف حلقنا . لا ينقصنا وجع الرأس .

- ماذا أفعل ؟

- ألم تقرأ التعليمات المعلقة على المدخل ؟

- لا . لم أقرأها .

- لقد كتبناها بخط كبير ووضعناها في مكان بارز ليراها الأعمى ، ويقرأها المواطن دون  أن يسألنا ونسأله . هل تعرف القراءة ؛ أم أنك أميّ  ؟

- أعرف . لست أمياً .

- إذن !  لماذا تضيع وقتنا  ؟  إذا كنت تريد أن تتسلى ؛ اذهب إلى المقهى المجاور على ناصية الشارع . لا يبدو أن للوقت عندك قيمة .

قال الرجل العجوز وهو يسوي نظارته دون أن يغضب :

- لست ُ الذي يضيع الوقت  . إنني أنتظر دوري منذ ساعة .

- وما ذنبي أنا ؛ إذا كنت جاهلاً  ؟

- أشكرك على هذا الإطراء ! لكن ألا ترى أنك تبالغ قليلاُ  ؟

- لا تشكرني حبيبي ولا أشكرك !  ماذا يضيرك إذا كنت أبالغ أم لا  ؟ مادمت لا تفهم في الحالتين ؟

أعجب الرجل بأسلوب الشرطي وإن كان مضللاً .  يجـيب على السؤال بسؤال . هذا هو

جوهر الفلسفة . ابتسم الرجل الوقور فازداد الشرطي سخطاً ؛  ورغم ذلك قال له :

- يجب أن تكون أكثر صبراً . أنت تمثل القانون ، ونحن نحترم القانون .

- ماذا يفيد القانون مع الجهلاء  ؛ إذا كان العقلاء لا يفهمونه  ؟

- سامحك الله .

-ـ بلا فلسفة  ! اذهب واجلب سند إقامة من عند المختار .

تململ المواطنون الواقفون في الرتل . صدرت أصوات همهمة تعبر عن الضيق والتذمر ؛

وصلت إلى مسامع الشرطي الذي يتميز غيظاً ؛ ثم لا يلبث أن يسأل الرجل قبل أن يدير ظهره ويذهب  :

- ماذا تعمل حضرتك  ؟

- فيلسوف .

يطلق الشرطي قهقهة ًعالية ً ؛  وهو يدق خشب الطاولة التي يجلس خلفها . لا يكتفي بما

فعل ؛ بل يصرخ بصوت سمعه كل من في الصالة :

- تعال يا حضرة المساعد  ! تعالوا يا شباب واسمعوا هذه السمعة  ! أقول له ماذا تعمل

فيقول لي فيلسوف !

لا يرد الرجل ؛ بل يبتسم للشرطي ويجاريه في ضحكه بكل برود .

- يعود الشرطي إلى التهكم منه ؛ محاولاً أن يجد له صنعة أفضل من هذه :

- حضرتك أستاذ جامعة  ؟

- لا .

- مدرس خصوصي  ؟

- لا .

- صحفي تكتب في الجرائد ؟

- لا .

- ها..ها .. لقد مر على راسي الكثير من هذه النمر . فيلسوف !؟ يعني عاطلاً عن العمل

يضيع وقته ووقت الآخرين  !

- يمكنك أن تقول ذلك .

- الآن فهمت . لماذا لم تقل لي منذ البداية ؟

يتجمع زملاء الشرطي حوله على أثر النداء . يتطلعون إلى الرجل فلا يعجبهم شكله . يسأل

أحدهم زميله المعني بالأمر :

-  ما هي مشكلته ؟

يجيب مبتعداً عن الموضوع الأصلي :

- نسأله في الغرب فيجيب في الشرق !

يقلب الشرطي الثاني الأوراق من جديد بصـورة آلية  ؛  وهو يرمق الفيلـسوف بنظرات عدوانية لا مبرر لها :

- إلى أين تريد السفر ، إلى الخليج  ؟

- الخليج !؟  ماذا أفعل في الخليج ؟

- لماذا تستغرب ؟  كل من يقف خلفك يسافرون هناك . يعودون بقرشين محترمين ، أفضل من بقائهم بلا عمل .

- لا أستغرب . لكنهم في الخليج لا يطلبون فلاسفة ولا مفكرين ، ولا كتاب ولا شعراء ؛ بل يطلبون سائقي شاحنات ؛ نجاري باطون ، ميكانيكيي سيارات ، مندوبي مبيعات ، ممرضات . وأنت كلك نظر لا أملك مثل تلك المؤهلات .

- ها..ها.. أنت تعجبني الآن  . سوف أحاول مساعدتك .

- الحمد لله  !  أخيراً .

- إلى أي بلد تقصد ؟

- إلى ايطاليا .

- سياحة أم زيارة ؟

- لا هذا ولا ذاك . أنا مدعو لإلقاء محاضرة .

- أُف ..!  إلى ايطاليا لإلقاء محاضرة  ؟

- نعم  . هذه بطاقة الدعوة  .

يقلب الشرطي شفتيه متعجباً  ؛ ويسأل :

- تذهب إلى ايطاليا ؛ وتنفق المبلغ المرقوم  لإلقاء محاضرة ؟

- ليس على حسابي . أنا لا أملك المال اللازم ، بل على حسابهم .

يناول الفيلسوف الشرطي بطاقة الدعوة  . يتأملها ملياً فلا يفقه منها حرفاً .

- عدم المؤاخذة . خذني على قدر عقلي  ، وقل لي ما هو عنوانها  ؟

- هل يهمك أن تعرف ؟

- يعني نوع من الفضول . أخبرني إذا سمحت !

- عنوانها ، الاستقطاب المتتالي لجدليات المعاصَرة  !

يقطب الشرطي حاجبيه  محاولاً  فهم ما يعنيه  . حين يبدو عليه اليأس يقول :

- هل تتكلم جاداً ؟

 يقهقه الفيلسوف بدوره هذه المرة . يتبعه الواقفون فيضحكون وقد استهواهم الحوار الطريف ، فينقلب الغم إلى فكاهة ؛ ويزول التوتر .

يعود الشرطي إلى تقمص هيئته الجادة قائلاً

- حسناً أستاذ !  في جواز السفر حقل فارغ ؛  لابد من تعبئته حول عمل صاحب الجواز .  ولا نستطيع كتابته إلا نقلاً عن ورقة رسمية . وبما أنك لا تعمل عملاً رسمياً ، عليك إحضار

سند إقامة من عند المختار . لا يمكننا إملاء الجواز بكلمة فيلسوف !!

- لماذا ؛ هل هي معيبة ؟

- لا . إنما غريبة بعض الشيء . ألست معي في ذلك ؟

- نعم  .

- سأكتب لك عملاً حراً . تاجر خردوات مثلاً !

- اكتب ما تشاء ، إن كان سيحل المشكلة .

يذهب الرجل ليعود بسند إقامة من عند المختار . يعطيها للشرطي ليضمها إلى إضبارته .

- عد قبل انتهاء الدوام  ، وسيكون جوازك جاهزاً  !

يستلم الفيلسوف جوازه بعد أن يستل الشرطي ختماً ويدمغ به الجواز ثم يقول ضاحكاً :

- تفضل أستاذ ! لا تنس أن تجلب لنا شيئاً معك !

- سأفعل  .

- مع السلامة.