مهمة خاصة

عصام الدين محمد أحمد

وفى لهوجة يلبس عاصم الخروج،تتقدمه نسمة إلى بسطة الباب،يحاول منعها بالنظرات والإيماءات،نظرة وحيدة منها تخجله،يدس فى جيبه شهادة تأدية الخدمة العسكرية لمحمد،يلم الفلوس الموجودة فى البيت،يترنح التوك توك بهما متفاديا المطبات،من مطب لآخر يا قلب لا تحزن ،هاهما يتخطيان الكوبرى الخشب يهم بالخطوات و تلاحقه ِمتسارعة،يصعدان المينى باص،يمتطى شارع مصر والسودان بسرعات متفاوتة،تارة كالسلحفاة وأخرى كالفهد،فى البكور الشوارع هادئة وفارغة،ولكن المفاجآت لصيقة الدقائق والثوانى،لم يحدثها طوال الطريق،فالاتهامات متبادلة ولم يأن وقت التفجير ،نزلا أمام المحكمة؛المبنى فارغ إلا من موظفى الاستعلامات،قالوا لنا أن نيابة العجوزة بالدور السابع،صعدا السلالم،لا أحد بالسابع،أستسمحها بإن ينتظر بالمقهى المواجه  ،أبت صحبته ولبدت مطرحها لا تبرحه،جلس عاصم فوق طاولة على الرصيف،ملأ صدره بأدخنة المعسل،لتدمع عيناه ،ويهتز جسده،يطلب هشام على الهاتف:

-أين أنت؟    ألن تحضر عرض محمد على النيابة؟

- إية نيابة؟

- العجوزة.

- نصف ساعة وأكون حاضراَ.

-تفضل يا باشا بإنهاء المكالمة.

أدخنة تعقبها أدخنة،أكواب القهوة تتناسل،المقاعد مشغولة تماما،يكتنف ذهنه الخمود،محامون ومتهمون ومدعون يعزفون سيمفونية تناول المشاريب،تنعق سيارات الترحيلات،يمعن النظر فى الكلمات المخطوطة على الأبواب،لم يقرأ بعد(العجوزة)، يفاجئه هشام بمشاركته الطاولة  ،يبادره بالسؤال:

-ماذا حدث؟

-أخبرنى أنه محتجز منذ الرابعة والنصف عصر الامس.

-فى أى مكان قبض عليه؟

-جامعة الدول.

أعطاه عاصم صورة من شهادة التجنيد قائلا:

-أثناء تجنيده كلف أكثر من مرة بمهام خاصة.

قاربت الساعة على العاشرة،أخيرا أتصلت به،يقضم السلالم فى ثوانى معدودة ،تتقاطر كومات المحتجزين ،عقد تترابط وحداته بالكلابشات،يمثل محمد أمام عاصم، وبجواره منتصر،تحيط بهما ثلة من المخبرين وأمناء الشرطة،أسفل عيني محمد كدمات زرقاء،وعلى وجهه آثار الصفعات محفورة،يبدو عليه الإعياء فى صورته القصوى؛لا تتسرع باطلاق الأحكام،توقف عاصم جانبا والمحامى على مبعدة خطوات،أقترب منه شاب عهد هيئته من قبل،ولكن اسمه تاه فى كراكيب الذاكرة،حينما لمحه عاصم ،احتضنه،كسته أمارات الأمتعاض وعدم الفهم،لم يلتق به إلا لماما،سبق وأن تقدم لخطبة بنت أخته،رفضوه بحجة أن والدته صعبة المراس،ودائمة التدخل فيما لا يعنيها،أمعقول كل هذا التعاطف الطال من عينيه ،يبادره بالتعريف:

-مروان المحامى.

-  رحم الله والدك؛كان خدوما.

-  سأشترى معجون وماكينة حلاقة لمحمد.

- سأشتريهما وعليك اعطائهما له.

يهبط عاصم إلى الشارع،يبتاع كمية وافرة من الطعام والماكينة،يلتقط أنفاسه على الرصيف،يصعد إلى الدور السابع على الأقدام،يعطى لمروان اللفافة،يدس عشرة جنيهات فى يد كل فرد من طاقم الحراسة ،هذا السمين والجالس على الكرسى وبيده الأوراق لم يعجبه المبلغ فزاد له عشرة أخرى،يتفاوض المحامى مع أمين الشرطة لكى يسمح لمحمد بإن يذهب إلى دورة المياه وتخفيف ذقنه والتى أشبه ما تكون كالنبت البور،رضى بورقة الخمسين جنيها على مضض،يظهر (فؤاد توفيق)المحامى بصحبة مجدى ؛الأخ الأكبر لمنتصر،هندام فؤاد المهذب يدفعه إلى القلق؛فهذا الرجل سيسعى جاهدا لتبرئة ساحة منتصر وليذهب محمد إلى الجحيم،يلقن مجدى ببعض كلمات،ينقلها الأخير إلى منتصر ومحمد،الآن تأكد فى روع عاصم ما كان يخمنه،أقعدته كراكيب الفكرة على الأرض،ونسمة واقفة تأبى الزحزحة،تنفق المال ببذخ غير معهود لكي تتحدث مع محمد،لم يلاحظ  عاصم –حينها-أن هشام المحامى لم يسد النصح لمحمد،وكأن الأمر لا يعنيه،تأكد له أن مصير الولد مرتبك ولا فكاك منه،مقصلة المفاجأة أزهقت الأمل،لا يقف على التفاصيل فلم العجلة؟    الوقوف يتعبه ،فيفترش الأرض،يقدح الذهن شرراَ متقداَ،تركسه السنون فى مرمى الرماح،لم يحجز لابنائه مقاعد راحة فى قطار الرحلة،تذكرة الدرجة الممتازة غالية،واليد لم تقبض إلا الماء،وإدعاء البطولة تكلفتها باهظة ، والثوب الملطخ بيقع المعارضة مآ له الحرق ، ارتال المحابيس تنتقل من علي بسطة السلم الي آخر الطرقة ، حيث غرفة النيابة ، شارفت الساعة علي بلوغها الثانية ظهراَ ،تخور قوى جسده ، يتبعهم الي الغرفة ، تنظرنسمة أمامها ، يفكون الكلابشات ، يندهون علي محمد ، يلج الغرفة الأستاذ فؤاد والأستاذ هشام ، الوقت يمر ، قدماه تفقدان القدرة ، فيجلس علي الارض ، الحارس يأمره بالابتعاد ، يخرج وكيل النيابة من دورة المياه ، نصف ساعة ويعود الي غرفته ، الخامسة تعبر ولم يظهر أحد ، اخيراَ ظهر الأستاذ فؤاد ، ينم وجهه عن الحيرة ، الاستاذ مجدي يسأله عن الاحوال ، يجيب باقتضاب : عدد الصور علي تليفون محمد تجاوزت آلفين وسبعائة صورة .يهمس عاصم بالدعاء : ربنا يستر .

يقصد الوكيل دورة المياه ثانية ، ينتاب عاصم الأحساس إنه يتلفن لمن هو أعلي منه ، مترقبا الأوامر ، أمست  الهواجس حقيقة مؤلمة،يردد عاصم: ضاع الولد .

 الجدر تضيق ، انفاسه تتلاحق وكأنها تنشد الأنتحار ، طال اخراج الوكيل وكأنه يعاني افرازات ذاتية التكاثر ، يعود متجنبا النظر في هيئات الواقفين ، يلحق به فؤاد توفيق ، جبال الخوف منه تبدأ في الذوبان ، يرد عاصم علي الهاتف:   ما الاخبار ؟

- يا عم خالدلا ادري ، يقولون أن الموضوع له علاقة بفترة تجنيده .

 - لن يؤيد موقفه أحد .

- أعطني رقم هاتف العميدالنحيف.

ينهي المكالمة ، يتصل بالعميد ، يقول :

- إنا ابن عمك الشيخ .

- لم اسمع صوتك من زمن بعيد .

- ظروف الحياة ، المهم يا باشا : ابنى الكبير قبض عليه ، وعلي تليفونه صور لمظاهرات التقطها لمكتب المستشار العسكري .

- لماذا لم يشطبها بعد انتهاء المهمة ؟

- وهل مثل هذه التكليفات جائزة ؟

- ولماذا تنتظر تصديق روايتك ؟

- لا أتبادل السمر معك ، فانا الآن في سرايا النيابة .

- و المطلوب ؟

- كيف السبيل إلى الشكوى حال رفضهم الاعتراف .

- المكتب الفني .

-  شكراَ يا باشا .

أخيرا ُيجر محمد خارج الغرفة ، الأستاذ فؤاد يبادر عاصم بالقول :

 - موقف ابنك سليم ، والموضوع سهل ، ورقة صغيرة من المستشار العسكري تنهي الموضوع تماما .

 - لن يعترف بشئ، فالخديعة واللؤم من مكوناته الأساسية .

- لكل معضلة حل ، وعموما أنا دفعت ببطلان إجراءات القبض والتفتيش .

يُستدعى منتصر،يعقبه فى الدخول فؤاد ومجدى،يلتمس عاصم مكان وقوف محمد،يشتد أزيز الحارس كى يبتعد،نسمة تصر على الوقوف جواره،لا تلتفت لتحذيرات الحراس،يقول محمد لها:

- (خلى)  أحمد يحذف موقعى على الفيسبوك وتويتر،ويشطب المدونة.

أعطاه ورقة وقلما ليسجل كلمات المرور وعناوين مواقعه،ينبش حروفا من الصعب قراءتها،وكأنه يتعلم الكتابة،أو أصابت أنامله لوثة سريالية، تعطيه نسمة مائة وخمسين جنيها من فئة العشرة،دقائق ويخرج منتصر،لم يستغرق التحقيق معه نصف ساعة، يصرح فؤاد بصوت خافت:

- غدا سيعرضان ثانية على النيابة مع محضر تحريات الأمن الوطنى.

يعلق عاصم حائرا:

- لا شئ سلبى عليه فى سجلات الأمن الوطنى.

يجرونهم هابطين السلالم الخلفية،يتبعهما عاصم ونسمة مرتجفين،طاقم الحراسة يستحلب القسوة،وكأنهم يشتهون الإيلام،يدفسونهم فى سيارة الترحيلات،يعودان إلى البيت،لا يقدران على الحركة،يجافيهماالسكون،أنسكب دورق الحياة،جلاميد الأيادى حرمتهم الصحبة،تتهاوى فيسندها،تتعثر فى أقدامها،فيمددها على الكنبة،تهرب أنفاسها،تتراخى أعضائها،تتبعثر حروف المواساة،يرن الهاتف،توبخه أمى:

- ما الأخبار؟

- سنذهب للنيابة غدا.

- سأركب قطار العاشرة.

- يا أمى أنا تعبان ولن أتحمل تعبك،فأريحينى وحينما ينتهى الموضوع سأكون جاهزا لحضورك.

تغلق الخط فى وجهه، يرمى الورقة التى بها كلمات المرور والأرقام لأحمد،يشغل ال(لاب توب)،يدير قرص الهاتف متصلا بمكتب المستشار العسكرى:

- أنا والد المجند سابقا محمد.

- ما هو تاريخ أنتهاء خدمته؟

- منتصف عام 2014. يتعجل الرد: أى خدمة؟

- حظه العثر أوقعه فى يد الشرطة، وجدوا صور تتعلق بكم.

- ما علاقتنا بالأمر؟

- ألتقط الصور ليثبت لقادته أنه شارك فى التظاهرات التى قدم عنها تقريرا.

- لم نطلب منه التصوير.

- ولكنكم كلفتموه بالمتابعة.

- عموما سنعود للسجلات وندرس الموقف والتيسير على الله.

يسأل أحمد:

- هل ألغيت المواقع؟

- كلمات المرور خطأ.

- جرب بضعة تباديل وتوافيق فى الأرقام؛لعل وعسي!

أفترش البطانية على الأرض،ألقي بجسدى المفرفر،يا ليت العطب يعرف طريقه إلى الحواس!  يغيب بعض الوقت ويسأل:

- هل شطبت المواقع؟

- هل سجلت الصور على فلاشة،وحذفتها من على سطح اللاب؟

لا يدرى أن كان يجيبه أم لا،دقائق ويسأل:

- هل حضر وكيل النيابة،هل غادر؟

تمت بحمد الله

وسوم: العدد649