جدتي وجنون الموت العقلاني !
جدتي لم تقاوم الموت، كانت على غير عادتها، ظننت أنها ستدفعه بعيداً عنها، اعتقدت أنها ستسبّه بالألوان، وتخيلت لسانها سيتراقص بالغلط واللعنات عليه، غير أنها فعلت ما لم أتصوره يوماً، فخذلت كل توقعاتي.
جدتي المزاجية، القوية، الصنديدة، جدتي الحديدية، لما اقترب منها الموت، لم تصفعه على وجهه، ولا حتى في خاصرته، لم تُرْكعه، حتى أنها لم تمسكه من عنقه، ليس ذلك فقط، بل إنها لم تقرص أذنه لتردعه.
ويحي، لم تفعل جدتي كل ذلك مع الموت، مع أنها تفعل ذلك وأكثر معنا، فهي أقوى منه بكل تأكيد، جدتي لها قوة تزيد عن ضربة مصارع حديدي، وأسرع من رصاصة قناص متمرّس، وإنها أكثر حنكة من السياسيين في استقطاب فريستها والايقاع بها.
جدتي المقعدة لسانها أطول من الشارع الالتفافي الذي اختلقه الاحتلال في مدينتي وقسّم أوصالها، حتى أنني أجد تشابهاً بين لسان جدتي والاحتلال، فجدتي تحتل العقول التي تحدّثها، أظنها "مُخاوية"، أقصد أن جنّيا يسكنها، ويعطيها كثير نواقصها.!
جدتي لها قدرة بتمزيق صفوف وطن مع أنها لا تفعل غير أن الاحتلال فعل، جدتي تحسن الخديعة، ماكرة، ولولا أنها مسنّة لقلت أنها امرأة لعوب، ولا أقصد الفكرة التي لاحت بذهنكم، بل ما هو أبعد من أن تفهموه، فجدتي أشبه بالقديسات بل أعظم.
في حضور الموت تغيرت معالم جدتي عن بكرة أبيها، جدتي المزاجية العصبية وجدتها أكثر اتزانا وهدوءً ووسامة، كانت عقلانية لأبعد الحدود، عقلانية لحد الموت وما تلاه...!
جدتي لم تسب ولم تضرب ولم تقتل، هي فقط احتضنت الموت كعاشقة ولهانة ارتمت على صدره، ولم نسمع منها غير غنجة الموت التي تحيا في داخلي.
وسوم: العدد 654