مدينة.. وأحلام طفولة

وقف على قبر والده   ، مطأطىء الرأس مشبك أصابع يديه مع بعضها ، يردد أدعية

ويذرف دموعاً حارة حزينة ، ثم مالبث أن باعد يديه عن بعضها  وأخذ يؤشر بها

باتجاه القبر ، وهو يقول بنبرة مسموعة : هل لك أن تعود ؟ هل لك أن تعود ؟

نظر إليه الذي كان بجانبه وأجابه بتلقائية : نعم  نعم هلم نعود ! هذا يكفي ، رحمه

الله وأسكنه فسيح جنانه ، همّ بالحركة وخطى بضع خطوات مبتعداً ، لكنه مالبث أن

توقف ونظر خلفه ، لازال صوته يردد ذات الجملة : هل لك أن تعود ؟ هل لك أن

 تعود؟ ويشير بيديه بالإشارة نفسها ، وقد تأكد له أن الإشارة كانت باتجاه القبر لا لغيره

تعوّذ من الشيطان ، ورجع بخطواته وأخذ يهدّء صاحبه على ما غمره من حزن شديد ،

بالرغم من أنه لايعرفه وإنما كان يعرف والده  ، فقد رافقه ليؤنسه من خطرالحواجز 

   العسكرية ، ويزور قبراً يخصه كما ادعى، لكنه ظلّ يسمع الجملة ولم تنقطع

عن مسا معه .

قررالابتعاد قليلاً ليراقب نهاية مايرى ويسمع ، لكن لم تروق له الحالة ، فعاد يسمع 

الجملة  بصوت أعلى وزاد عليها ، أن رأى صاحبه يشير إليه وهو يقول له مباشرة :

هل لك أن تعود وتتركني لوحدي ؟، سأبقى هنا بعض الوقت لأنني في لقاء انتظرته

طويلاً ! .

ظلّ كارم يكلم والده ويبكي ، كان يخلط ما بين الدعاء وبين الحديث ، وما بين الشوق

الشديد له ،وبين الإستسلام للموت الذي وقف حائلاً بينه وبين رؤيته ، كان شهراً لاأكثر

، منعه القدر من رؤية كل منهما للآخر ، رؤية الحلم الذي عاش فيه كارم عمره كله

مجسداً بشهادة دكتور متخصص بعلم الأحياء والطبيعة ، ليقدمها للأب المتفاني ، وهو

الآن مدفون تحت التراب في هذا القبر .

همّ بحركة خفيفة لينقل جسمه قليلاً ، حيث قبر أمه إلى اليمين من مكان وقوفه ،

فسمع مرافقه يذكره مرة أخرى ولازال واقفاً على بعد من طرف القبور :

-         لاتتأخر... سنتعرض للخطر من الحاجز العسكري في طريق المقبرة !

لم يرد عليه وإنما جثى على الأرض يكلم أمه :

السلام عليك يا أمي ، عشرين سنة مضت سريعة على وعدك لي ، أتذكرينه ؟

حينما بدأت أدرس السادس الإبتدائي ، وعدتني إذا نجحت بنيل شهادة السادس ،

ستأخذيني معك في سفرك إلى بيت خالي البعيد ، لكن القدر حال بيننا في تلك السنة ،

أصابك مرض غريب فجأة  ولم يمهلك ، وفي كل سنة آتي إليك هنا وأسألك ذات

السؤال، ألم يحن السفر بعد يا أمي ؟ ها وقد سافرت أنا إلى بلاد بعيدة ، وبقيت أنت

هنا في هذا المكان الموحش ، ويومها جئتك وأعلمتك بما حصل معي واستأذنتك  ،

كان أبي واقفاً هنا إلى جانبي ، ويشهد على كلامي ، كنت أكلمك وهو يبكي  ،

نعم كان يبكي بحرارة لم أراه فيها إلاّ يوم توفّيت ، نعم يا أمي إن أبي كان يفتقدك

، إنه يحبك حباً ربانياً ، فاطمئنّي إنه لم يتزوج بعدك أبداً ، وهذه أول مرة أبوح

لك بهذا الخبر ، كان يزورك كثيراً لكنه كان خجلاّ فلا يفضي لك بذلك ، كان يبكي

أكثر مما يتكلم  ، وهاهو الآن بجوارك يؤانسك في وحشتك ، كان طيباً حنوناً

وجلداً صابراً في نفس الوقت ، ألا تعرفين ذلك فيه ، ربما كنت تخففين عنه

ضنك الفقر وقلة الحيلة ، عندما كنت تعيشين معه وإلى جانبه ، ولكن بعدما فارقتيه

تجلد أكثر وصبر أكثر ، وأخذ منك مالم  نكن نحن نشعر به ، حين نحتاجك

ونفتقدك ، كنا صغاراً فعوضنا الكثير والكثير، ولكنه لم يستطع شراء بيت

كما تعرفين ، ألا تذكرين تلك الحادثة المشؤومة ،حين كنتُ صغيرا في السنة الثانية

 من الابتدائية ، حين أجبركم مالك البيت على إخلائه ، أذكره جيداً كان يطردنا طرداً

، وكان معه اثنان من الشرطة ، وقد أخذ أحدهما بإصبع أبي وغمسه بالحبر،

ووضعه على ورقة كان يحملها ،عنوة وبالقوة ! .

لم  أدرك يومها ما فعلوه بنا ، ولم أدرك لماذا طردنا من بيتنا ذاك الذي أحببته حباً

لازال في ذاكرتي إلى هذه الساعة ، ألا تتذكرين ياأمي اليوم الذي فقدتموني

فيه ، بعد أن سكنا في بيت آخرغيره ، لم يكن بعيداً كثيراً عنه ولكنه كان غريباً ولم آلفه

أبداً .

لقد رجعت إليه في غفلة منكم ، وطرقت الباب فخرجت امراة غريبة الشكل ، نهرتني

عندما هممت بالدخول ،  ساعدها رجل وأولاد كانوا إلى جانبها ، لم يؤذونني لكن

الرجل أخذ يسألني عن اسمي ، ويهدء من روعي عندما أخذت أبكي بشدة ، وأصرخ

بهم ، وأقول لهم : لماذا أخذتم بيتنا ؟ لماذا طردتمونا ؟ إنه بيتنا أنا أحبه فيه أمي وأبي

وأخوتي ،  ولولا أولاد الحارة والجيران الذين يعرفونني ، لما تخيلت أني سأرجع

إليكم ! لقد أفزعتك وأفزعت أبي وأخوتي يومها ،  أليس كذلك ياأمي ؟ وكلما أتذكر تلك

الحادثة ، أكلم نفسي وأقول دائماً ياليت أمي وأبي يغفران لي تلك الفعلة . لا

أطيل عليك بالحديث ، فقد جئت اليوم لوعد بيني وبين أبي ، والوعد لم يكن هنا ، وإنما

هناك في أحد البيوت الخربة ، من طرف المدينة الشمالي مابعد النهر ، ألا تعلمين

أن أغلب بيوت المدينة قد تهدمت وخربت  ،أصبحت مخيفة ، ولم يعد فيها أحد و أغلب

الناس قد هربوا خوفا من القتل و الحرب ، لقد تنقلنا بعدما تَوفَّيت عدة مرات من بيت

إلى بيت، لم يستطع أبي شراء بيت لنستقر فيه ،كان أبي يفضل أن ينفق على دراستي

خارج سوريا ، بدل أن يشتري بيتاً ، كانت أمنيته أن أقوم أنا بذلك بعد انتهائي من

الدراسة ، لقد لفظتنا المدينة وابعدتنا شيئاً فشيئاً، حتى أصبحنا خارجها ، كانت قاسية

جداً معنا ، مثل  ذاك الذي طردنا من أول بيت ، كأنه كان يطاردنا ، أوكأن أحدهما

يشبه الآخرفي فعله ! .

 غدت البيوت وشروط تأجيرها غالية جداً ، حتى لم يعد بإمكان أبي إيجاد أجر

 مناسب في كل حال ، إلاّ هناك في أحد البيوت الخربة البعيدة خارج المدينة ، ومع

 ذلك فقد طال الخراب والدمار كل شيء الآن ، إنه منظر مخيف يا أمي ، إنها ليست

المدينة التي تعرفينها وأعرفها .

ها قد جئت لأبي حتى أخبره ، فكان القدر أسرع مني نحوه ، ولعلك تخبريه أنت فهو

الآن إلى جانبك ،وترفقي به فهو جريح كما قيل لي ، مات بجرحه البليغ التي سببته

شظية قنبلة نزلت على بيته الخرب ، وذاك الشخص هو الذي ذكرته لك  نفذ وصيته،

وجاء به على أعين الجيش ودفنه هنا ، قال لي إنه يعرف أبي وأخوتي ولا يعرفني ،

وقد جازف معي حتى أوصلني إليكما .

لاأريد أن أفجعك أكثر ياأمي ، لم يتبق أحد من أخوتي أبداً فلا تحزني ، سأحمل عنك

وعن أبي كل الحزن ، اتنان منهم ماتوا ، وأخواتي مريم وسعاد هاجروا مع أولادهم

 وأزواجهم منذ أن بدأت الحرب ولاأعرف عنهم شيىئا، لا تلوميني فلم أكن موجوداً

هنا ،  كنت مسافراً بعيداً خارج سوريا وقد وصلت المدينة بالأمس ، ولولا هذا

الرجل الذي يبدو أنه يحب أبي حباً خاصاً ، لما عرفت كل هذه الأخبار فاعذريني

وأطلب منك أن تسامحيني ، لقد أنذرني ونبهني بأن لا أتأخر، أخاف أن يدركني الليل

 فنتعرض للقتل بلا سبب كما قال ، لقد اختفى هو الآخر ولم أعد أراه !  فأين ذهب ؟

سأودعك وأودع أبي وأقبّل قبركما من كل طرف ، وقد لاأستطيع أن أعود إليكما قريباً

،فالحال صعباً ومعقد جداً  ،وها أنني أسمع أصوات انفجارات وأزيز رصاص تقترب

منا ، وقد أقتل ولا أجد أحداً يدفنني كما أفادني الرجل أوحتى قبراً يأويني !!

فوداعاً أيها الحبيبان  . !

وسوم: العدد 654