مناوشة
قررت مُخَالفة عاداتي وولوج الميدان من مدخل كوبري قصر النيل ،الوافدون لا يمكن حصرهم، يُغْلِق الجنود المَنفَذ،يشقون شعبًا ضيقـًا للمرور،يتلكؤون فى التفتيش،الزاحفون يتكاثرون.
أنصح الجنود:
- افسحوا مجال المرور.
يرد أكثرهم تجهمًا:
- ستعلمونا شغلنا.
فألُف لأتوجه لمنفذ جاردن سيتي ،الثُكْنَة العسكرية أكثر حضورًا، وأشد قوة،أقترب من العميد، أُشْرِع فى وجهه البطاقة ،يقرأ البيانات.
يسأل:
- أتريد العبور إلى الميدان أو إلى مجمع التحرير؟
أقلِّب الأفكار.
- لماذا لا أدعي ذهابي إلى المجمع ؟
- لماذا تكذب؟
- أتخشى المنع؟
- أتهابُ استخدام العُنْف؟
تجدني أرد:
- الميدان.
يسأل القائد:
- سنك كبير، وظيفتك مرموقة،فلماذا الميدان؟
دون تفكير وبنبرات قاصمة:
- أولادي بالميدان.
يفحص سحنات الضباط المحيطين به،صراع ما يدور فى عقله.
يأمر:
- لن تعبر.
لا أدَعُهُ يُتِمّ أوامره،أزعق:
- سأعبر.. سأعبر.
بهدوء مستفز يقول:
- سأعتقلك.
أسخر من التحدي:
- وما الجديد؟
- فين تروح يا صعلوك بين الجنود؟
يقترب ضابطان عن يميني وعن يساري،تتشبث قدماي بالأرض،أستنهض حروف الصمود ، يمسكان بي ،الغضب يتملكني، لن أتراجع،ولن أستسلم،الطبيعة العنيفة تجتاحني، يهابون جذبي .
يلفظ الآمر:
- من أين لك بهذا التصميم؟
بنبرات حادة ومضطردة أقول:
- خلاص طفح بي الكيل.
يبتسم بصفاء، يأمر:
- ارجع حيثما جأت.
أثناء دوراني للخلف يُدَاعِبُني.
- ألم أقل لك إنك لن تعبر.
أتمتم بكلمات مهزولة:
- العسكر هم العسكر.
أتراجع إلى وجهتي الأولى ، مازال انسلالُ الناس بطيئًا،يغالون فى مظاهر التفتيش، وكأنهم يدفعوننا للملل والمغادرة،أتذكر بضع كلمات خلبت لبِّى وقت الدَعَة والهدوء.
- أحينما تهجع للمنامة تتناسى أوجاعك؟
صال الأستاذ وجال فى رواق الدرس متسائلًا:
- أتركض فى بحر الرمال؟
تهب روائح عراك خارج الفصل ، يحسم الناظر الأمر بالرَّكل، يُعَقب الأستاذ متأملًا.
- أتَسُوخ الأقدام والآمال؟
أخيرًا تجدني فى مواجهة العسكري ، يرفل فى بزته المُهَنْدَمة، يعتليها قميص واقٍ من الرصاص،وفوق رأسه خوذة تبث الرعب، يحتضن رشاشًا آليًا ، يدفعونني من الخلف لأحتك بجسده الوتدي ، العرق الحمضي وأنزيمات الخوف يُغرِقَانني فى دلو الكلام.
- أتهرب من انسيال الجروح العُضَال؟
أمر فوق صراط التفتيش ، يصل إلى أذني هدير الميدان.
- القصاص ... القصاص.
تصخب المظاهرات،تعنف التحركات،تتضاعف الأعداد الغفيرة،فوق المِنَصَّة الرئيسية ممثلو اتحاد أحرار العالم ، يرشون الناس بالورود ، يتعانق التصفيق والهُتاف.
- ثورة .. ثورة حتى النصر.
يقبُض الشباب على شيخ، ينغله الكِبَر،يقطع الميدان طولًا وعرضًا ،يسب المظاهرات، يحيطون به،يكممون فمه،يَكِيل البعض الضرب له ، والبعض الآخر يُدَافِع عنه ، تحول الأيادي دون موته،تتحد القرارات.
- سلموه للجيش.
ترفع فتاة الجينز العلم بيد ، وتصور بكاميرا التليفون المحمول .
تصيح بنفاد صبر:
- احضروا له دكتور ، ينقع رأسه فى مطهر لغسل المخ من الأوساخ ، ربما يرجع إلى رشده.
شاب يقترح :
- انقعوه فى مياه مُثلَّجة ليفقدَ شحنات الكهرباء الزائدة.
رجل خمسيني يهجم مكبرًا:
- اجزروه ، اسلخوه ، وفى الزيت اشووه.
للمرة الألف أجسادنا تَحُول دون الفتك به ، أعلن قبل أن ينفد صبري،ويفت الوهن فى عزمى.
- سلموه للجيش.
- ربما يطلق الجيش سراحه ثانية!
يقترح ثانٍ:
- سلموه للجيش وقت الحظر.
يعرض ثالث:
- دعوا لجنة الأمن تتولى أمره.
نجوب الميدان ، نكتشف يافطة مخطوطة:
- إذا كانت لديك أفكار لإنجاح الثورة فتقدم بها.
زحام متزايد أمام الخيمة،حلقات محمومة بالنقاش فى محيطها،كل فرد يعتقد أن فكرته هى سبيل النجاح ، أتدخل لأهدء كثيرًا من المشاحنات.
- الكل يُكمل الكل.
أهمس فى الآذان:
- اكتبوا: توحيد الشعارات والاستمرار.
تنثال الحروف، تتأجج النفوس،عدوت باتجاه عبد المنعم رياض،فقد أمضيت ساعات عديدة دون أن تقربه ،الدبابات على حالها،اللجان الشعبية تفحص البطاقات وتفتش الأبدان، والعشرات يفترشون جنازير الدبابات،الغريب أن الرؤوس تتوسد الجنازير،ربما أضحى النوم عميقـًا بمثل هذه الوسائد؟ الوضع هناك مستقر.
مظاهرات حاشدة تشدو:
- الشعب والجيش إيد واحدة.
يعتلي الأكتاف ضابط من الجيش،تتملك القوة المتظاهرين،نلْحَق بالمظاهرة،نقضم الميدان بسرعة ، تركل الأقدام الأرض الصّلبة،تتوحد المظاهرات، الإرادة والتصميم ترسمان الوجوه،تكتسي بروح التحدي والمثابرة،يلتقط الضابط الميكروفون.
- قدمت استقالتي بالأمس،لا أخشى شيئـًا طالما الله موجود.
ضجت النداءات ، تمزقت معنويات المندسين، يُعلِن المتظاهرون عن معدنِهِ النفيس.
- الشعب يريد الخلاص .
وسوم: العدد 654