أزمة في حياة الناس
كان الفتى أحمد يعيش وأهله في مغتربهم في بيت فاخر ، أثاثه جميل ، وستائره حريرية ، والأرائك فيه كما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وتصدح في جنبات البيت أنغام عـِذاب ... وكانت رغائبه تنفذ في جو محبب ورغيد ، وتخيم السعادة الكبرى عليه وعلى أهله ، كيف لا والمال لديهم وفير وفير ، وكلهم يأتيه مايرضيه ...
ولكن الأزمة المالية التي مرت على الناس في سنوات عجاف لم ترحم صغيرا لصغره ولا كبيرا لشيبته ، لقد عمت أرجاء البلاد ، ونشرت ثعالب العصر ، وكان أبو أحمد واحدا ممن نكب بأمثال هؤلاء ...
يالَـلأنامِ تبدَّلتْ أطباعُـهم ونمـا الغُـرورْ
ومضَوْا إلى غاياتِهم من غير هَدْيٍ أو ضميرْ
وغض الناس أعينهم عن أداء ماعليهم من ديون وحقوق ... وهاشت الذئاب على النعاج ... وأودت الأزمة بأعصاب أبي أحمد فانفجر عرق في رأسه ... ودخل المستشفى مغميا عليه ، ولم يخرج منه إلا إلى قبره ...
وجن جنون زوجته ... لم تتحمل الصدمتين ... لقد فقدت خلال سويعات كل شيء في حياتها أو هكذا خيل إليها ، ولم يكن لديها رصيد من إيمان يحميها من أرزاء الحياة ... فانبرت تتجول في الشوارع ، وغدت سخرية الآخرين ...
ولم يبق لأحمد أحد ... نعم لم ير أمامه من يعينه إلا جيرانه الذين كان وأهله يألفون ... وحسبهم وقد سمع منهم كلاما معسولا أنهم سيكونون له المعين إلى أن يتعرف إلى أهل له في بلده يؤوونه ، وكانت هذه بداية الطامة ...
لقد رأى الصغير أمام عينه أثاث منزله ينقل إلى بيت جيرانه ، وتتسلط الأسرة على أمواله ،وأنى للغريب أن يمنع سطوة الجشعين ؟ ودب الخراب ثانية في البيت مع تعري الناس من الخلق ... لاشيء بعد هذه الحياة يعرفون ... لابعث ولا حساب ... لارقيب يخافون ... لقد حسبوا أنفسهم قد سيطروا بما اقترفوه على الحياة ... فراحوا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ...
وأنفق الرجل الجار على لهوه ماشاء له اللهو ... وراح يغزو ميادين الهوى ويرخي زمامه في بقاع الفساد ، وكما قال الشاعر :
ماعاد يذكر بيته وعياله يكفيه مايعروه من سكرات
وطلب منه أحمد ذات يوم بعض المال ليؤدي به حاجاته، ويسلي به همومه ، فتنكر له ، فألح أحمد في الطلب، فهب الرجل كالمذعور ، وفي شفتيه لفافة من مخدرات ... ووضع أنامله القاسية على رقبته ليطفئ بها ثورة غضبه، فإذا هو ذئب قد تقمص شكل إنسان ، وأظهر ضغينة وحش كاسر ، فتحطمت قوى الصغير ، وتقلصت شفتاه ... وسرى الموت في جسده ونشر ألوانه الشاحبة ... ووقع على الأرض لاينبس ببنت شفة ...
وأسرعت زوجته وقد سمعت الصراخ ... وتعالت منها صرخة ... ثم انصاعت لأوامر الزوج المهدد ...
ومع الليل وظلمته أودع الصغير بحر الظلمات ...
وعاد الاثنان متعثري الخطا ، وبكت الزوجة ماشاء لها البكاء ، وأنى يجدي البكاء بعد أن فات الأوان ...
أترى الناس أصبحوا في زماني
لـُعبا في يد الرجيم اللعوب
يزرعون الأشواك في الطرقات
وغدوا في الـدُّنا قساة القلوب
وسوم: العدد 655