تيمه وبناتها

د. محمد أبو زيد الفقي

خلف محطة القطار كان عم بيومي يقف في كشكه ، يعمل الشاي لعمال المحطة ، ولكل من يتصل عمله بهذه المحطة ، حتى اللصوص الذين يسرقون أمتعة راكبي القطارات  ، الكل يعرفه ، وهو يعرف الكل ، وكان له زبائن من كل أطراف المدينة ، لأنه بجانب عمل المشروبات الساخنة بكل أنواعها ، كان تجار المخدرات يرسلون له كميات من الحشيش ، والأفيون ، والبانجو ، يقوم بتوزيعها في لفائف صغيرة علي بعض زبائنه ، وكانت تقف معه في الكشك  ابنته هياتم ومهمتها توزيع المشروبات علي الذين يجلسون علي الأرائك [الدكك]الخشبية ومعها اللفائف إياها ، لمن يريد.

 كانت هياتم جميلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، ومع ذلك لم يتقدم أحد لخطبتها ، ربما لفقر كثير من الزبائن ، وارتباط بعضهم بالزواج ، والجهد الكبير الذي يبذلونه في تحصيل الرزق  وخروج بعضهم عن دائرة الوعي بسبب ما يشربونه من المخدرات ، وكان هناك سبب خاص بهياتم نفسها ، فقد كانت في غاية الكرم مع زبائنها ، وكانت لا ترد يد لامس ، ولا تكسر له خاطر فتجمعت الأسباب لتجعل من زواجها أمراً بعيد المنال ، غريب الخيال .

  وفي احدي ليالي الشتاء الباردة ، ألجأت الأمطار الشيخ حاتم ، للاحتماء بهذه الغرزة

[ القهوة الصغيرة ] ، ولما جاءته هياتم ، أو تيمه ، كما كان يطلق عليها رواد الغرزة ، ووقفت أمامه ، وقالت له : تشرب إيه ؟

نسي الشيخ حاتم الزمان والمكان ، ونظر لتيمه ، ولجسدها المستفز ، وقال بعد أن أطرق رأسه : شاي .

لم يكن الشيخ حاتم شيخا ، ولم يتلق تعليما دينيا قط ، وكان مؤهله دبلوم صنايع ، ولكن أطلق عليه زملاؤه في الأعمال الحرة ، وأهل حارته لقب الشيخ حاتم ، بسبب استقامته ، وأدبه ، وشدة حيائه .

تناول الشاي وهمَّ بدفع الحساب ، ولكن تيمه قالت له بدلال وأنوثة ماكرة ، الحساب في المرة الأولى علينا ، وعندما تصبح زبونا عندنا ستدفع الكثير.

 انصرف حاتم وهو عازم علي عدم الرجوع إلي هذا المكان مرة أخرى ، وبعد أيام غلبه شوقه وساقه إلي غرزة  تيمه ، وانبهرت البنت بأدبه ووسامته ، وشعرت أنه مختلف عن كل زبائن الغرزة ، وبدأت في محاصرته بعيونها ، وإلقاء شباكها عليه ، وبدأت الحرب بين تجاربها الكثيرة  وتجربته الكسيرة ، وانتصرت تيمه ، وبعد شهور كان الشيخ حاتم يضع يده في يد عم بيومي ، ويجلس بينهما المأذون ، وبعد شهور أخرى تم الزفاف .

  أنجبت تيمه لحاتم بنتين ، في مستوى جمالها ، ولكنها أرهقته بطلباتها التي لا تنتهي ، ورغباتها في الحياة التي لا يمكن أن تتحقق إلا في الخيال المطلق ، أو في أفلام السينما ، وأخذت بيده من طريق الحلال الذي عاش به ، إلي طريق الحرام التي عاشت عليه ، وأصبح الشيخ حاتم يعبد زوجته ويطيعها طاعته لربه في الأيام الغابرة ، بل أخرجه من معادلة حياته ، التي عاش بها  ثلاثين عاما قبل زواجه ، وبدأ يوزع المخدرات مع عم بيومي ويشربها مع زملاء السوء ، وبدأ يسرق بالإكراه ، ويقتحم البيوت ، ويعود آخر الليل لينال الرضي من الفاتنة الساحرة تيمه ، وتم اعتقاله ، ودخل السجن  لأول مرة في حياته ، و لأول مرة في حياته أيضا يجلس مع نفسه ، ويتذكر الشيخ حاتم المستقيم الطيب العطوف الحنون ، وكيف كان الشيطان نفسه لا يستطيع أن يصل إليه ، وتذكر معرفته بتيمه ، وكيف أخذته من طريق الهداية والسلامة ، إلي طريق المعصية  والندامة ، وكيف جعلته يخسر ربه ، الذي كان يراقبه في كل أمر من أمور حياته ، وأدرك أنه سيخسر الدنيا والآخرة إن لم يقرر أمراً لا رجعة فيه!

   بعد مدة أُفرج عنه علي ذمة القضية ، وعاد إلي بيته ، ووجد أن بعض معارف تيمه القدامى ، قد حملوا عنه العبء في غيابه ، وعوضوها عن كل شيء ، وتزينت تيمه بعد العشاء والسهرة ونوم البنات ، وعرضت عليه نفسها ، ولكنه أهملها قليلا حتى يغلي لها الشاي  وفي كوبها وضع لها المنومً ، وشربت تيمه ونامت ، وذهب هو إلي المطبخ ، وأتى بسكين وعاد إلي سريره ، ونظر إلي جسد تيمه الفاتن و إلي عنقها الشارد ، وعلم أن هذا الجسد كان سببا في نكسته  ووكسته في الدنيا والآخرة ، ولا يعلم أحد إلا الله الحالة التي كان عليها ، والسخونة التي توهجت في رأسه ، ففصل رأسها عن جسدها ، ونظر إلي البنتين ، واعتقد أن مستقبلهما سيكون أسوأ من أمهما ، وسيفتنان الناس أكثر وأكثر ، فترك سريرها وذهب إلي سريرهما ، ووضع الرؤوس الثلاثة  بجوار بعضها وجلس ينظر إليهم ببلاهة يضحك حيناً ويبكي حيناً وبين الضحك والبكاء يردد قولاً لا يحيد عنه:

اللهم مالك الملك اغفر لتيمه وبناتها غفرانا يحرم جسدها على النار..

وسوم: العدد 658