صعيدي فى المترو

عصام الدين محمد أحمد

رُميت من العربة تماماً ككيس القـُطن، تلفع رطوبة المحطة الوجه الناز عرقاً، أتبرم وأتأفف ولكن رُبما تضيع زفراتي في الزحام؛ أكره الزحام ، ولكن ما باليد حيلة !!

ألمس جيوبي أثر دفعة مجهولة، تستبق الدُفعات، أغرز أناملي داخلها، أفتشها بتمهُل والقلب يدٌق : ماذا ؟ ؟

أنقب بدقة ولهفة ورغبة مكلوبة : أين ؟ ؟

أقلب بطانة الجيب لقتل الشك : متى ؟ ؟

اندفع كالأهواج داخل العربة متراجعا، ها أنا بالعربة :  فلأبحث جيداً  ! !   لعلي أعثر على إجابات !!

تتقوس الأبدان المُنتقشة، يفرز العرق خليطاً من الروائح النفاذة، ينغلق الباب آلياً، ليس أمامي الآن إلا الوجوه، أمارات السقم تعترض الوجنات، الأفواه تتذمر في صمت، تتأود، أتساءل : ما جدوى الفحص ؟ !

- لا بديل عن سرعة التصرُف !

الأبدان البالونية تتمدد، تنمكش، أصيح برجاء مأزوم : ليس فيها شيء سوى بضعة أوراق .

تلغط الألسن، تشغى الهمهات الجو الخانق، اصطخب بصرامة : لن يفيد السكون ؛ ياجماعة أية كلمة .

انزلقت من التكتـُل، استند على الباب الرابط العربة بالأمامية والمُنغلق أبداً، أخطب بسُخرية: ليس فيها إلا البٌطاقة .

الغيوم  لم تنقشع، والسكوت جرس البلادة، ولكنني أشرح ربما يفيد : نقب السارق شونة الوهم !

يتفلسف من لا ناقة له ولا جمل : من المؤكد نزول اللص المحطة السابقة .

أتفرس الأيادي، أزفر أدخنة القنوط : لا جدوى من الكلام، فلتهبط المحطة القادمة، ولتدع الأمر لله .

يفح جبيني المقدد ناراً وسولارا، عيناي تتوهان في مشاهد تنفيسية:

( يلف الظلام السماء، الجسر خاو إلا من سكون مُريب .

-    ما هذا الجنون والهبل ؟ ؟    دعني استجمع شتاتي ! ! ثم قـُل لي ماذا أفعل بعد ما فعلته ؟ ؟    ألم ترني كالبهلوان ؟ !     الموقف يستحق ، فمن أين لك بفلوس الفواتير والرصاصين ؟

-    اليوم شاذ وصعب منذ الصباح ، لم تجن من العمل سوى التعب .    ما أجمل الاجترار ! بل  قـُل :

-  أبوك كان يدندن بصُحبة الجاموسة بصوت رائق قـُل أن يصفو من الكدر، تسبقه دوماً، لا يقوى على سبقها أو محاذاتها قهي الأميرة المتوجة وهو مُجرد حارس .

-    تذكر جيداً أنه مُجرد غفير، ولا تنس أن تقول :    أفدنة القصب تسيج السبيل حتى تضفي على الجو مسحة من الرُعب، وأمك تنصحه كُل صباح :    لا تتأخر، فالليل قاس ويفضح البيوت .

-    ولكن أباك يمخض قبل أن يقول :    الرب واحد .

-    والنبي كفاية، دبر لنا الحيلة لاسترداد الضائع .

-    لماذا تقر أنك ملول ؟ ؟ اسمع بقية الحكاية لتستعيد بعضاً من توازنك :ادت الجاموسة عن الطريق وكثيراً ما تحيد، تقرض شواشي العيدان الجاف، تتوتد مطرحها، تنطح الفراغ، وكأن الشيطان الأمرد يلبسها، يتأخر عنها بضعة أمتار حتى تهدأ .

-    كثيراً ما سمعته يردد لأمك :    للبهائم إرادة كإرادة العُمدة علينا .

-    ألا يكفيك الآن الحكي فهو الذي بدد آمالك ؟ ! )

   شاب يصرخ في رجُل مُعمم : أين المحفظة ؟ ؟

  يتهجم الرجُل بالقلق والنفير : لم أسرق

  هجمت بضراوة على جيوب الرجُل ، يستغيث : - كفاية .

  خلعته من لبنات الأجساد، عيناي تجوبان الأرجاء .  

- وجدتها .

  صحت بالظفر. حينئذا ستعود ثانية للتذكُر !!

- مالك يا عم شايلني على دماغك وزاعق ؟ ؟

- أنا غلطان لك، واستاهل ضرب النار .

- يا رب عيار مفلوت من بُندقية عمياء .

- احمد ربك ، فقد دفعت أجر معظم الرصاصين ولم تتبق إلا فاتورة صغيرة وعرق عبد الحفيظ .

  أكافئ ذكائي باستنهاض التذكُر :

( يقرفص ليقض حاجته، باله مشغول بما آلت إليه أحوال الجاموسة، منذ أن انتزعت ( الشبة) من حُضنها وحالها أضحى لبانة دكر في بُق القرية، وكأنها تنعى الواقع، وحينما نهض لم يجدها، ارتاح، هام على وجهه مُخترقاً تشابك العيدان، ينكفئ على وجهه، يجرب الوقوف، تنغرس العيدان المنثنية في بطنه، تنغزه، يصيح ، صوته يرتد في حنجرته ، يلطم خدوده : تباً لك ؛ أشبهت تصرفات أبيك كالنساء ؟ !

- يا فالح، هذا ما حدث بالفعل .

- المُهم : لا يسمع خوارها، بل يتعالى نحيبه، يتخبط في شتى الاتجاهات، يُعبر إلى الضفة الثانية، لكنه عاد وعيناه منقوعتان في مواجير الدم، لم يستطع يومها أن يرفع رأسه في عين  أمي الراقدة على محفة اليأس .

- أأدركت الآن نتيجة فعلته ؟ ؟

- الظاهر أن نافوخك طق ! )

همهمهات ، الألسن تتراكل، أبرز الرجُل بُطاقة عضوية إحدى الجمعيات الخيرية، يُقلد كالبيغاء : لم أسرق .

تعجبت من هيئته البهلوانية ، هطل علي الهدوء ، لا تكذب وقـُل : انكتمت .

استهجنت الموقف مُدعياً : آسف يا سيدي أنا الذي سرقت ؛ يدى المتعبة ألقت بالمحفظة أرضا دون وعى .

انفجر لغم الخزي في وجهه، انغرس دبوس المعدن في وجهه البالون فانفجر، تقوقع داخل جلبابه فأضحى كخيال المآته المُشرف على الهلاك من طول الوقوف، طوفان الغضب يحوم بالركاب، سلط إشاعات المتنمرة فالتمس الجميع الحذر، قال أحد المُراقبين : عند أقرب مسجد تبرُع بما فيه القسمة والنصيب .

رددت عليه مبتسما : أكيد

توقف المترو، انسلخ الرجُل فاراً، ترنحت الحوارات، لم يبق سوى التدافـُع، تتالت النصائح، تتضبب الرؤى، عبرت المحطات، يتوقف القطار، لا مفر من المُغادرة، تمهل يا فتى الفتيان. ولم الانتظار؟ استجم فوق مقعد المحطة المُدبلة بالغادين والرائحين حتى يجف عرقي، الآن يُمكنني تفتيش الحافظة، فاضية إلا من البُطاقة .

- هـأ ... هــأ ... يا حوستي

أشد الجلد ، أبكي.

-  أيفيد البكاء يا متعوس ؟ ؟ يا عم أبوس رجليك ارحمني. أ أمزق البطاقة ؟ أأرجع إلى العربة مرة ثالثة ؟ ؟ أثانية الديون تتصاعف ؟ لماذا لا تجرب القطار التالي ؟ ؟

- عد إلى الساحل ، وانفش ريشك على عبد الحفيظ والرجال !

ها أنا أتفرس الأوجه ، ألاحق القدود المتناسلة ، تلاشت لذة استحلاب هذه المشاهد ، الكلاب البوليسية تتمختر بصحبة العساكر ، الصباط يتمازحون .

تمت بحمد الله