هَلوَسَات انتظَار

لَا أحد يُنكِر مَاهية المَوت، لَا أحد يُدركُهَا .. لكنّهَا تُلَاحِقُنَا، فكرَة الزّوَال تُرعِبُنَا، جُنُون الضّيَاع فِي أثِير هَذَا الفَضاء يتلبّسُنَا !

ارتَدَيتُ مِعطَفِي الأسوَد، لطَالمَا بَعث الدّفء فِي أوصَالِي، يُشعِرُنِي بِقِيمَة الحَيَاة، يِقِيمَة قُبلَة مَا قَبل النّوم، بِقِيمَة أنْ أكُون أنَا،

لَا يهمّ أن أكُون غَيْرِي، لَا يُرعبُنِي أن أرتَدِي أقنِعَة الآخرِين، أو أن أعِيش حَيَاة لَا تُشبِهُنِي ..

أتدركُ الحَيَاة عوَاقب فرمَاناتهَا الّتي تصدِرُهَا عنوَة عَن النّبض ؟ 

عِشتُ فِي مَنفَى الدنيَا نِصفَ عمر، نِصف حُلم ونِصفَ شَهقَة، لا يُحزِنُنِي الأمرُ كثِيرَا .. فالحَيَاة لَم تُوالمنِي يَومًا ..

ترمُقُنِي العُيُون بنظرَات قَارسَة، تَكَاد تهشم عِظَامِي لَكنّني لَا أشعر، أضحَيتُ غرِيبَة فِي عَالم يضج بالمألُوف، فِي عَالم ملِيئ بالتّنَاقُضَات ..

لَا يَزَالُ صَدَى كَلِمَات أحدهُم يَتَردّد فِي أذنِي، أكان من الصّعب أن يخبِرَنِي بأنه غَير مُتَاح عوضَ أن يُمَارس مَعِي فَلسفَة أنا فِي غنَى عَنهَا .. أو رُبّمَا .. لَا يهمّ !

" اهرُبِي بَعِيدًا، لَا تَلتَفِتِي ورَاءكِ، كُونِي لنفسِكِ .. كُونِي لنفسكِ "

التفكِير يُرهِقُنِي، والذَاكرة امتلأت حدّ التخمَة بِجِرَاح أبت أن تَندمل، يرهِقُنِي أنْ أفكّر في الموجُود، فِي الوَاقع وفِي الأحلَام،

تعبتُ مِن العَيْش متسولَة علَى زُقَاق الألم، لطَالمَا أردتُ رسمَ نُقطَة نهَاية لحيَاة حطّت رحَالهَا بَين ألف الأمل ونُون الحنِين.

الأمل مُتعِب، يُرهقُ النبض، ويُضْعفُ القلبَ، مِن المُتعب حقّا أنْ أتخيّل عودتَه مِن جدِيد 

اكتفيتُ بتعاوِيذ الأمل منذُ رحِيلِه، تَفَاءلْتُ بابتِسَامَة وبِدَعوَة ونَسَجتُ خيُوطَ الأمل مِن سَرَاب ..

لَمْ يَكُن رَحِيلُه سَهلًا لَكِنّنَا جَمِيعًا رَاحِلُون، لَكِن تَرَجّي عودَتِه كَانَ ضربًا مِن الجُنُون، فَهو ومَن رَحَلوا لَن يعُودُوا ولَو جَفّت يَنَابِيعُ الدّعَاء ..

كُنتَ مُوجِعًا فِي جَمِيع تفَاصِيلِكَ، أنِيقًا حدّ الألَم، نَقيّا حَدّ التخمَة، مهَابًا حدّ الوَجَع ورَحِيلُكَ قَاتِل !

تمَامًا كتفَاصِيل يَومٍ تُزيّنُه ابتسَامتُك، كَانت الحيَاة معك كقصّة خُرَافيّة مبتُورة النّهَاية، اعتدْتُ وجُودك في تَفاصِيل يومِي، لكن الأمرَ أصبح أشبَه بحُلمٍ الآن.

يمر الوقًت ببطء وأنا أغرَقُ شَيئًا فشَيئًا فِي أفكَارِي، يَحمِلُنِي حلمِي إلَى السَمَاء، أطلّ منهَا علَى مَا كنتُ علَيْه، أذرِفُ دمعَة وحِيدَة كمعظَم أيَامِي، تكللهَا ضَحكَة فَارغَة إلَى مِن بَعض الحنِين، اشتَقتُ أن أزيّن عيْنَاي بوجهِك وأن تتغنّى أذنَاي بصَوتكَ، أرقصُ مَعَهَا تحتَ ضَوء القَمَر فِي لَيْلة شتويّة بَاردَة لَا يرَافقُنِي فِيهَا إلَا صوتُكَ وسَوَاد معطَفِي ..

أكتُبُ حرفًا علَى مفكّرتك التِي نسِيتَهَا خلفَكَ ذَات أمَل، أخطّ حرُوفًا بِلَا معنًى لتُشكّل مُوسِيقَى يعزِفُهَا فُؤَادِي منفرِدًا،

أنظُرُ مِن النّافذَة إلى الغُيُوم التِي تزيّن السّمَاء، تترَاءى لِي خيَالَات تُدَاعب قلبِي، شَعرتُ أنني طفلَة آنذَاك، أرقُب السّمَاء وأترقّب تشكّل الغُيُوم، أبتَسِم سرّا ففِي الطّفُولَة لذّة بوسعهَا انتشَال بَقَايَا مسَاء حزِين مِن أجندَة الذّكرَيَات، عدتُ للمفكّرَة لأجدَهَا تذكّرنِي بالوَاقعِ الذِي أهرُبُ منه : لَن يَعُود ! كرّرتُهَا بَيْنِي وبَيْنِي بِبُطء لَن يَعُود ..

حَملْتُنِي عَلَى جَنَح الحُلمِ ومضِيتُ مُسرعَةً، خشيَة أن تتلبسَنِي جنيّة الوهمِ مجدّدًا، فالمَوتُ لَا يُعِيد سكّانَه !

وسوم: العدد 667