أنوار

أنوار

حماد صبح

مس مفتاح المصعد متكدرا مهموما ، وفي ثوانٍ وجد قدمه على أولى الدرجات صوب الدور السادس ! نفر من ركوب المصعد الذي سيوصله سريعا إلى مقر الجريدة . لا يريد أن يدخل المقر الخالي منها . كيف يرى مقعدها موحشا من نورها ومن بهجة ابتسامتها وحلاوة صوتها حين تحييه أو ترد تحيته ؟!  وتغيمت عيناه بالدموع . قتل الله من سحق تلك الحياة المتوردة المشرقة ! فطر قلبه نبأ استشهادها الذي روعه به زميل في الجريدة الأسبوعية  التي توقفت   في الحرب ، وهي الآن تعود للصدور في تهدئة الأيام الخمسة التي انعقدت بين إسرائيل القاتلة والمقاومة الباسلة . واصل ارتقاء الدرجات محترق القلب يستعيد ذكريات كثيرة لها . توقف في الدرجة التي ستبلغه مصطبة الدور الثالث . أطرق سابحا في خواطره متخوفا من أن يفاجئه أحد في تلك الصورة . في الربيع السالف ، التقيا في هذا الموضع . كان يصعد ، وكانت تنزل . كانت تلبس ثوبا سماويا . وردة وافاها الربيع فتفتحت حلوة عطرة . شكر يومها عطل المصعد الذي طالما غضب عليه وهجاه بأعنف الألفاظ مثل غيره من العاملين في مؤسسات البرج المختلفة . حيته وهي على المصطبة ، وهرولت راجعة ، ولم يهتدِ لعلة رجعتها . ربما ذكرها لقاؤه بشيء .

هكذا فكر . واصل صعوده يومذاك تهزه بهجة أنوثتها التي تفجرت متناغمة مع  الربيع . وفي الدور الرابع لقيه صديق يعمل في واحدة من مؤسسات البرج ، وتوقفا لبعض حديث . وحين دخل مكتبه لاقته خارجة منه . قالت باسمة ملتفتة إلى المكتب : القهوة ! عم أبو مؤمن غائب اليوم .

عرف الآن علة رجعتها ، وشكرها مسرورا . قتل الله المجرم الذي قتل تلك الرقة الساحرة والنفس النبيلة النفيسة ! قتل وردة في ربيعها الخامس والعشرين . يتفطر قلبه حرقة حزن إذ يتوامض  في فكره كيف تفتت ذلك الكيان الإنساني النوراني الفائض براءة وخصب حياة بقذيفة سددها طيار مجرم . انتهى إلى الدور السادس مثقل القلب مكتئب الروح . لا قدرة ليده لدفع الباب شبه المفتوح . لن يدخل مقرا هذه المرة . سيدخل مقبرة مظلمة أوحشت من الحياة وبهجة الجمال . تبادل العناق وحمد الله على السلامة مع من سبقه من الزملاء . من كل الأفواه ، بل من كل العيون ، انطلقت " رحمها الله " دون زيادة في الكلام . اختفاؤها الصاعق الفاجع من الحياة يعجز كل كلام . وبعد أن استقر في مكتبه طالع التقرير الذي كتب عن ذكريات العاملين في الجريدة عنها وأحزانهم لاستشهادها ، وأضاف إليه عدة جمل تبكيها ، ونادى أحد الفنيين في غرفة الإخراج ، وطلب منه تغيير اسم زاويته  من " للحقيقة " إلى " أنوار" ، فانصرف الفني متمتما : الله يرحمك يا " أنوار" !