كلكم راع
عمي رجل أربعيني ، لا بالطويل البائن ولا بالقصير اللافت ، هو ربعة في كل شيء ، لا صاحب كرش كبير ولا ممسوح البطن ، له بشرة لا بيضاء صافية ، ولا سمراء غامقة ، عيناه سوداوان واسعتان ، فيهما بريق جميل ما عهدته في عيني أبي الذي قلما استطعت أن أنظر إلى عينيه فهو دائماً إما أن يكون مشغولاً أو متوتراً أو نائماً ..
جلس عمي يحادث أولاده وبناته ، الكبيرة جاءت من خلفه ، نكزته من خاصرته فضحك ونظر للخلف فعانقته وقبلته ، قبلها بحب أبوي عميق ، وقال :
ـ ماذا تريد العروس ؟
قالت بخفة ودلع :
ـ والله لا أريد إلا رضاك ..
قال لها مبتسماً :
ـ رضينا .. وبعد الرضى ؟
قالت بحب :
ـ أريد أن أذهب غداً إلى معرض الكتاب مع صديقاتي .. فحضر لي المال والسيارة والسائق الجميل الحبيب وهو أنت ..
ابتسم الأب بإعجاب وقال :
ـ منذ متى تهتمين بالكتب ؟ اللهم سمعنا الأخبار الطيبة ..
قالت بفخر :
ـ منذ أن رأيتك لا تنام إلا إذا قرأت ولو صفحة من كتابك الذي تضعه عند رأسك في غرفة نومك ..
قال عمي :
ـ ولا تنسي نصيبي من قراءة القرآن الكريم فهو الأول في حياتنا يا قلبي ..
وجلس الاثنان يحددان الموعد المناسب لزيارة المعرض .. بينما أنا سرحت بخاطري إلى موقف أبي حين قلت له بحب وأدب :
ـ بابا أريد أن أسجل في مركز تحفيظ القرآن ..
فما كان منه إلا أن عبس وبسر .. واكفهر وجهه وكاد يزأر .. إلا أنه خفف حدة صوته لأنه رأى في عينيّ رعباً وخوفاً .. فقال بعصبية :
ـ يا بنتي مصاريف مصاريف مصاريف .. من أين آتي بالفلوس ؟ ألا تراعين حالتي المادية ..
قلت له :
ـ يا بابا ادفع لي نصف المبلغ وأمي تكمل .. يا أبي أنا بحاجة لتحسين النطق عندي ..
قال بلهجة المنتصر :
ـ أمك قادرة على تعليم عشرة مثلك .. اجلسي معها تعلمك ..
قلت له باستسلام :
ـ دع أمي وشأنها .. فهي قد نسيت كيف تعلم وتدرس ..
نظرت إلى أمي الواقفة خلفه فوجدتها تشير لي أن أقول له أنها ستدفع المبلغ كاملاً منها ؛ وقبل أن يغادر البيت مسرعاً وكأن في البيت عقرباً يخاف أن يلدغه بأي لحظة قلت له بانكسار :
ـ أمي ستدفع المبلغ كاملاً .. فقط وافق على أن أسجل في تحفيظ القرآن الكريم ..
رش بضع رشات على رقبته وملابسه من عطره الثمين .. وأخذ مفتاح سيارته الفخمة ، وبدأ يطقطق بالجهاز حتى تفتح السيارة وتشتغل قبل أن ينزل إليها ؛ كي لا يضيع وقته ويطير إلى أصحابه .. وقال :
ـ اتفقنا .. اصنعوا ما شئتم .. سلام ..
ورأيته يهرول مسرعاً .. وكأنه يركض إلى طريق الجنة ..
أحسست بيد حانية من ورائي تطبطب على كتفي .. التفت إلى اليد فإذا هي يد جدي الحنون .. قبلتها بحب عميق .. ودعوت الله في سري أن لا يحرمني حنانه ؛ وهربت مني دمعة شقية أبت إلا أن تعلن عن حزنها .. شعر جدي بدمعتي ؛ إلا أن الإنسان الراقي يعمد تجاهل أحزان من حوله ويغير مجرى الأحداث والأحزان بدل أن يفتح مواضيع تقتل المشاعر وتهز القلوب الضعيفة ..
لفت نظري ابن عمي الصغير كم هو متعلق بوالده .. كم يحبه .. كم يركض خلفه طالباً رضاه .. ما إن يسمع صوت مفاتيح والده حتى يركض مسرعاً نحو والده يرفع يديه إليه ليحمله ويجلسه في حضنه .. ثم يمسك بمفتاح سيارته ويلعب به ؛ بل ويمثل أنه يقود سيارته ويصدر أصواتاً تشبه السيارة من تشغيل المحرك إلى الزمور .. قال عمي :
ـ من صغرهم وأنا أربي فيهم حب الرجولة .. فهذا ابني الكبير لم يبلغ من العمر الأربع عشرة سنة الآن يعرف كيف يشغل السيارة وينتقي الخضرة معي بل ويتسوق للبيت وحده من خضار وفواكه ولم يبق له سوى أن أعلمه كيف ينتقي اللحمة ويشتريها .. فأنا كثير المشاغل وأريد أن أبني رجلاً في البيت يخدم أمه وأخواته ..
قلت له بذهول :
ـ وكيف تعلم كل ذلك يا عمي ؟
قال عمي باستغراب :
ـ وكيف لا تعلمين كيف يتعلم الولد ذلك ؟ يتعلم ذلك من رفقته لي في كل مكان ؛ فأنا أغريه بما يحب حتى يحب الخروج معي .. وبالتالي تعلم مني مهام الرجال .. إن الزمن غدار يا بنتي وأخشى ما أخشى أن تأتي المنية وأتركهم للحاجة والعوز .. لا قدر الله ..
صحت من قلبي بخوف وذعر :
ـ لا قدر الله يا عمي ، الله يحفظك لهم يا عمي ..
تذكرت أخي الكبير الذي لا يعرف أن يشتري شيئاً من سوق الخضار .. بل ويستحي أن يناقش في أمر النقود وربما نصب عليه فيبتلع الغصة ولا يتكلم لأنه لا يريد أن يؤكد لأبي نظريته فيه أنه فاشل ..
قلت لجدي :
ـ هل يحاسب الله الأبوين يوم القيامة أم يتركهم لأنهم آباء وأمهات ولا حساب لهم عند ربهم ؟
قال جدي بلهجة المعلم القاطع الحاسم :
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...
لا أدري .. صدرت مني ابتسامة خفية .. ربما لأني علمت أن الله سيحاسب والدي على إهماله لنا .. وشعرت بضيق من هذا الشعور الخبيث .. فهو والدي الحبيب وباب من أبواب الجنة كما تقول أمي دائماً .. ومع ذلك أحسست براحة في قلبي لم أعهدها من قبل ..
وسوم: العدد 679