شرقي هو

(هيام) شخصية متميزة .. جمالها عادي .. شعر قصير بني ، عينان صغيرتان بنيتان ، بشرة حنطية ، طول متوسط ، كل شيء فيها لا يلفت النظر إلا بريقٌ في العيون يوحي بذكاء شديد ، لها حاجبان مرفوعان على شكل رقم ثمانية تشعرانك بالحزم وسرعة البديهة .. هي طالبة جامعية متفوقة .. مثقفة .. قارئة من الدرجة الأولى .. لا يوجد أستاذ في الجامعة إلا وقد وقع معها في حوار ونقاش وكانت هي المجادلة القوية الواثقة الغالبة .. استطاعت بذكائها أن تنال إعجاب كل أفراد الهيئة التدريسية على الرغم من حداثة دخولها في الجامعة ـ فهي لا تزال في السنة الأولى ـ

كان الأستاذ (هشام) خريجاً جديداً يعمل معيداً في الجامعة .. خطفت نظره واكتسحت بذكائها جمال الجميلات في الجامعة .. كان يستمتع حين يطرح فكرة ويقول للطلاب :

ـ من يناقشني في هذا الموضوع ؟

وتبدأ نظرات الطالبات بينهن وابتساماتهن .. فقد عرفن أنه ما قصد أحداً بالحوار سوى تلك النبيهة الذكية (هيام) التي لم تكن تفهم من أفكار هذا الأستاذ سوى أنه محبٌ للعلم والنقاش ، كانت صديقاتها يتغامزن حولها ، ويرمين لها الكلمات عن هذا المعيد (هشام) ، بينما هي كانت تقول بثقة :

ـ أنتن سيئات الظن .. هو عبقري ويحب النقاشات والحوارات ..

حتى جاء اليوم الذي صدمت الجامعة بلوحة موضوعة على زجاج مدخل كلية اللغة العربية تعلن عن حفل قران الأستاذ (هشام) على (هيام) الطالبة الجدية ..

حضرت (هيام) إلى الجامعة ، وأخبرت زميلاتها كيف أن الموضوع قد تم بسرعة ومن دون أي تخطيط مسبق .. وكانت أول محاضرة تحضرها (هيام) بعد عقد القران عند الأستاذ (هشام) ، كانت المحاضرة شيقة .. شعرت (هيام) بسعادة غامرة .. فقد فازت بقلب هذا المعيد الجميل الرقيق ، الذي كان حلم كل فتاة في الجامعة ، وشعرت لأول مرة أنها فازت على زميلاتها الجميلات .. شعرت أنها امتلكت الدنيا بما فيها .. ولكن كما يقال عشم في غير محله .. فما إن بدأت المحاضرة وبدأ بطرح الأفكار حتى انفتحت أساريرها وبدأت تحاور وتناقش .. لكنها لاحظت إجابات مقتضبة من الأستاذ (هشام) وتفضيله لغيرها في النقاش الدائر على غير العادة .. امتعضت قليلاً ، لكنها هدأت نفسها بأنه ربما الحياء من الطلبة جعله يتصرف هكذا .. ومع الزمن ستعود المياه إلى مجاريها ..

في اليوم التالي كانت (هيام) تقف كعادتها وعادة زميلاتها مع أحد الأساتذة في ممرات الكلية تراجع ورقة الامتحان لتفوز بعلامة زيادة مثلاً ، لمحت (هشام) قادماً نحوهم من محاضرته ذاهباً إلى مكتبه .. انشرح صدرها وشعرت أن سندها في هذه الدنيا سيقف إلى جانبها ويدافع عنها ويجلب حقها من بين فكي السبع .. ابتسامة خفيفة طافت على مبسمها ما لبثت أن اختفت حين لحظت عبوس (هشام) ومروره قربهم وتجاهله وقفتهم .. تلعثمت بالكلام وماتت الأحرف وتوقفت عن الدفاع عن نفسها وعن زميلاتها .. سرحت .. اختنقت .. صدمت .. زميلتها تنكزها كي تتكلم وهي في عالم آخر .. استيقظت على رنة من هاتفها تحتوي رسالة من (هشام) فيها كلمتان :

ـ أنهي النقاش ....

بدأ القلب يشعر بسكين ناعمة تحزه حزاًهادياً وخفيفاً لدرجة تظن معها أنها دغدغة لا سكين قتل .. شرقي هو حبيبي .. لم أعد أعجبه بذكائي .. لم تعد مناظراتي تأخذ لبه .. بدأ يغار عليّ .. يريدني أنثى فقط خلقت له .. لا عقل ولا أدب ولا فكر .. شرقي أنت يا (هشام) لا علاقة لشرقيتك بمبادئ رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يعلم النساء ويقول عنهن إنهن شقائق الرجال ، وكان يقول : خذوا عن هذه الحميراء شطر دينكم .. حبيبي شرقيته لا علاقة لها بزمن الطهر والصحابة الذين كانوا يسمون الحميراء (عائشة رضي الله عنها) معلمة الرجال .. وتوالت الغصات في قلبها .. أيعقل أنه يريد مسح شخصيتها بمحبس ذهبي لا يسمن ولا يغني من جوع !!

كانت تسمع عن الرجل الشرقي وتتعوذ بالله منه .. ولما ارتبطت بهذا المثقف شعرت أن تعويذتها استجيبت وأنها لن ترضخ لعقلية الشرقي .. ولكن على ما يبدو : ما تخاف منه يحصل معك ..

بدأت تشعر بجفائه في الجامعة .. بل وتحكمه فيها .. لا تتكلمي مع الدكاترة .. لا تضحكي .. كوني محتشمة في علاقاتك مع الجنس الذكري .. بل ومع الإناث ..

حاولت في كل مرة يزورها فيها أن تحادثه عن الشعراء والأدباء ، عن آخر الروايات والقصص المنشورة حديثاً ، لكنه كان يغير الحديث وينحو به منحىً عاطفياً لا غير .. وكأن بريق العلم اختفى من عينيها وصار بريقها أنثوياً فقط ..

حاولت أن تفهم ما يحصل في قلب الرجل العربي ؟ لماذا تكون للأنثى هالة نورانية طالما هي بعيدة المنال .. وبمجرد أن تصبح بين الأيدي .. تزهد فيها وتصبح على الرف .. لماذا كلما ابتعدت الأنثى عن الشرقي تبقى جميلة الجميلات وأذكى خلق الله وأرقهن وما إن تصبح لك خطيبة أو زوجة تعتبرها جوهرة تخبئها في خزانتك للزمن .. ربما مع الزمن يخبو وهجها فلا تعود أهلاً لتتجمل بها أمام صحبك .. الأنثى المصون عند الشرقي تهمل فقد ضمن بقاء شرفها وعفتها ، ولذلك عليه أن يهملها وينهمك في اكتشاف جمال غيرها .. تتلاعب بأعصابه .. وبأي لحظة تغادره .. هذه هي المرأة الأنيقة الثمينة في نظر الشرقي .. امرأة بعيدة المنال ..

جلست تفكر : أتستمر معه أم لا ؟ فقد اختارت عقلاً لا ذكراً ، واعتقدت أنها ستكبر به ومعه ولكن الزمن يثبت لها يوماً بعد يوم أنه لم يكن رجلاً بل ذكراً فحسب ..

ولما بدأت تفكر بالهرب منه .. بتركه .. وقف المجتمع الشرقي ضدها .. أمها أبوها إخوتها وأخواتها :

ـ أترفضين رجلاً عنده ميزات كميزات هشام ؟

ـ أتكرهينه لأنه يحبك ويتغزل فيك ؟

ـ أنت جاحدة للنعمة غيرك بحسرة آذن في الجامعة لا أستاذ جامعي ..

كلام وكلام .. شعرت وكأنها مجرمة في حق الإنسانية لأنها تريد أن تترك رجلاً لا يراها سوى انثى لا امرأة إنسانة ..

رضيت (هيام) بالواقع .. وهدأت نفسها .. وقررت أن لا ترتكب جريمة بتركها لفارس بني الشرق (هشام) .. وتعيش أنثى كغيرها .. ولكنها ستجاهد لتبقى إنسانة واعية مثقفة مهما كانت العقبات ..

وسوم: العدد 685