صباح الخير!
اليوم الجمعه .... اليوم عطله .. اليوم حر شديد .
اسم جمعه يوحى بالاسترخاء والكسل لكن هذه الجمعه بالذات نموذجيه فى الحراره والقيظ .
يوم الجمعه يستيقظ الجميع متأخرين بعد ليلة الخميس اللذيذه ، غير عابئين بميعاد عمل او امل اللحاق بأحدى المواصلات الحكوميه الخاويه قبل ان تكتظ .
يوم الجمعه يختلف عن بقية الايام وعندما يكون حارا فإنه يختلف اكثر ...
وعندما يكون شديد الحراره ، فالاسبوع ستة ايام فقط .
الحراره فوق الاربعين ... الشمس حاميه والكسل بلغ من الكل مبلغه .
الرغبه ملحه للبقاء فى البيوت للاحتماء بالجدران الرطبه ، الرجاء الوحيد ان يتخفف الجميع من ملابسهم وسط المكيفات والمراوح مع الزوجات والاولاد .
يفسد هذا كله صلاة الجمعه ، وجودها فى اخر الاسبوع فى هذه الايام الصيفيه الحاره جعلها فريضه مرهقه ومضنيه .
المسجد قريب ورطب ويتميز بالمراوح الكهربائيه الدائره بدون كلل .
المسجد يتميز بخطيب يقّدر حالة الناس والمعاناه والحر ولا يطيل ابدا ابدا فى الخطبه او الصلاه .
لا بأس ، ساعه واحده وتنقضى الفريضه ، وكل شئ تمام .
قبل الصلاه المسجد خاو ... خاو ، إلا من شرذمه قليله.
المصلون يبدأون فى التوافد ... يجرجرون اقدامهم ونعالهم المكشوفه الى عتبة المسجد .
الجلابيب بيضاء فضفاضه ... تكشف الافخاذ العرقانه .
اللحى كثيره ... كثيره ، تزين وجها وتفضح اخر .
الاكثريه تسعى للحاق بالأماكن الرطبه بين العمدان او الارتكان الى الجدران .
الاماكن تمتلئ ... الباقون يجلسون فى وسط المسجد على مضض مكتفين بأثر الهواء الدائر .
قرآة القرأن تنتهى ... تبدأ صلاة السنه .
بوضوح شديد نسمع تثاؤبا من هنا وهناك !
اكثر وضوحا نسمع طقطقة مفاصل الرجال فى الركوع والسجود .
الامام يعتلى المنبر .
كل مصل يتخذ وضعا مريحا ومسترخيا آملا فى انقضاء الساعه المقبله على هذا الحال .
بعد الثناء والحمد والقبلات التى تغمر ظهور الكفوف وبواطنها ، يبدأ الخطيب فى رفع عقيرته ويبدأ المصلون فى الاسترخاء التام .
الخطيب يعلو بصوته اكثر فأكثر ولا ينافسه سوى صوت المراوح الكهربائيه فى دورانها المزعج .
رويدا رويدا تتغامض الجفون ، النوم آت لامحاله .
الخطيب يعلو بنبرته اكثر ... يكاد يهتف ... يكاد يصرخ .. يكاد صوته يتلاشى بين اصوات المراوح .
التثاؤب بدأ فى احد الاركان ... ثم آخر وآخر ... يتحول الى منافس عنيد لنداء الخطيب المبحوح وهدير المراوح اللاهثه .
التثاؤب يتحول الى شخير متقطع ... وينزوى اى صوت آخر منافس .
المباره الان فى الشخير بين المصلين !
الشخير يصبح نغمه متصله بدون توقف ... والمسجد تحول الى كورال ممتاز طويل النفس لاتنقطع تيمته ولا تتوقف .
الخطيب يصرخ فى آخر رمق ( يا قوم ان هذا طريق الله فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
ولكن لا فائده ... الشخير يفوز ..ويستمر ..خخخخخخ .
وفجأة يهب احد المشخرين صائحا ( النبى وصل .. النبى وصل ) !
وتنحسر اصوات المشخرين فى هدوء ... كما يتداعى صوت الانفجار فى خفوت ويحل الصمت .. وتحل الرهبه ، وتتفتح العيون .. وتتلفت .. وينعقد لسان الخطيب ويهرول هبوطا من منبره ومازال الخبر يخرق الآذان ( النبى وصل ) .
وتتطاير الاسئله من الافواه المشدوهه .. اين هو ؟؟ اين ؟؟ .
وهتف احدهم (ها هو ... ها هو ) .
وفى ثانيه واحده تحول المسجد الى غابه من الرجال هب الجميع واقفين يتطلعون الى باب المسجد وتدافعت الاكتاف وتزاحمت الايدى وتشابكت السيقان والافخاذ .
وفى وسط هذه المعركه كان ثمة موكب صغير لايبين وسط هذه الكوكبه .
ولكنه يتحرك ببطء من الباب الى المنبر ومن وراءه تلك الاشجار المتحركه.
حتى اذا وصل المنبر ازداد الزحام .. اشرأبت الاعناق علت الاصوات التى كانت تغط فى سباتها منذ قليل ( الله اكبر .. الله اكبر ) .
صلوا على النبى .. صلوا على النبى .
اشتعلت الاكف بالتصفيق والشفاه بالصفير .
وفى وسط هذه الضجه صعد الى المنبر رجل مهيب الطلعه ... وسيم المنظر .. جميل المُحيا يشع النور من وجهه .
تتعلق به العيون حتى فى ارتداد الطرف .. شديد البياض .. كث اللحيه .
تترامى شذرات عطره لاعتاب المسجد .. تهفو اليه القلوب من اول وهله .
وكأن حضرته القت على المكان بردا وسلاما .. كفت المراوح وسرى فى المسجد نسمه خفيفه بارده .
وجلس الجميع على الارض .. وعيونهم معلقه بقمةالمنبر وكلهم يقظه وانتباه .
وبدأ يتحدث ... كان الصوت رخيما عذبا تنصرف الآذان الى حلاوته وتلهى عن كلماته ومعناه .
وكان وقع صدى الكلمات فى مسامع الرجال ساحرا ... عندما قال فى رزانه وهدوء ( ايها الناس انى عبد الله ورسوله ومصطفاه .. واود ان اتحدث اليكم ).
ومضى يتكلم ويتكلم والآذان لاتسمع الكلمات .. ولكن الرؤوس تتمايل مع لحن الكلام .
وصار هواء النهار الذى كان منذ قليل ساخنا يلفح الاجساد .. نسمات طيبه تداعب الاعين والجباه .
وارتكن كل مصل مره اخرى واتكأ وعاد المشهد القديم مره اخرى .
واسترخت الاجساد وتحول تمايل الرؤوس على لحن كلام الرسول الى اهتزازات جسديه اشبه بحلقات الذكر وجلسات الزار .
وتعالت التثاؤبات مره اخرى ... وضاعت كلمات النبى وسط الاجساد المهتزه والتثاؤبات المستمره .
وعاد الكورال مره اخرى .. للتثاؤب الجماعى فى شكل منفر وتحولت احدى التثاؤبات الى شخير .
وتلاحق المشخرون مره اخرى .. اسدلت الاجفان وارتفعت نغمات الشخير لتختلط بصوت النبى .
النبى يعلو بصوته .. والمشخرون يعلون .
وتفوق المشخرون ... الشخير يزداد ويزداد .. خخخخخخخ .
عند هذا الحد من الشخير هب ثلاثتهم مذعورين من نومهم .
كان الوقت عصرا والطقس شديد الحراره والاجساد متناثره هنا وهناك داخل المسجد .. تحت المراوح الدائره ، قال احدهم :
الاول – هل رأيت ما رأيت ؟
الثانى – كنا نحلم اليس كذلك ؟
الثالث – فعلا .. ولكن كان النبى موجودا .
الاول – فعلا كان موجودا .
الثالث – كان جميلا .
الثانى – كان صوته رخيما وساحرا .
الاول – عجيب ان يحلم ثلاثتنا حلما واحدا !
الثانى – كان يتحدث بحراره.
الثالث- وضاع صوته بين أصوتنا .
الاول- وكنا جميعا نائمين .
الثانى – صحيح كنا جميعا نائمين .
الاول – والآن يجب ان نستيقظ .
الثالث – فعلا فعلا يجب ان نستيقظ ... صلاة العصر اقتربت .
الاستيقاظ اولا .
وردد ثلاثتهم فى ان واحد ( يجب ان نستيقظ ) .
وسوم: العدد 700