ضمير
حمل الجزء الأساسي المتبقي من الجثة بمشقة وألم شاع في روحه وجسده ، وأقره في ظل شجرة جوافة تتخلل مع جملة شجرات من جنسها كرم زيتون كانت بوابته الزرقاء ذات المصراعين مفتوحة على غير العادة . إنها الحرب . والتقط من قرب زيتونة شريحة بلاستيك بيضاء في حجم بطانية ؛ حفلت بللا وطينة ، ورجع إلى مكان الجثة على الأسفلت لجمع ما كبر من الأشلاء . تجربة فظيعة موجعة لم يتخيل حدوثها له في حياته ، لكنها الحرب . بسرعة تعرف على صاحب الجثة . واحد من سكان المنطقة جنوب شرقي المدينة . علاقته به قليلة عابرة . سلام ، وكيف الحال ؟ حرارة الجو ترتفع . الساعة التاسعة ضحى . سمع انفجار الصاروخ الذي قتله بعد طلوع الشمس بقليل ، ربما ربع ساعة . " مسكين ، رحمه الله ! تسلل إلى بيته مثلي " ، بالكلمات السابقة كلم خالد نفسه ، وتابع : " ربنا يستر لا نكون مثله ! " . ماذا ينتظر ؟! إلام ينتظر ؟! الواجب يلزمه بالانتظار ، لو تركه ستهجم الكلاب على جثته وتلتهمها . شيء مستفظع يخاف أن يكون سببا فيه . بعد نزوح ساكني المنطقة إلى الملاذات التي اعتقدوها آمنة من أهوال الحرب ؛ مثل مدارس وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم ، هامت كلاب المنطقة جائعة في قطعان من كلبين وأكثر ، وشهد كل من رآها أن جوعها وائتلافها معا ضاعفا عدوانيتها ، وأزاحا ما راكمه الزمن من طبقات فوق فطرة البراري الشرسة في أعماقها . قال أحد الذين هاجمه ثلاثة منها منذ يومين قبل استشهاد مروان : " هذه ذئاب . ليست كلابا . لولا العصا الغليظة التي كانت معي لأكلتني من غير ملح " . ينتظر خالد مرور دراجة نارية. لو مر تُكتُك سيكون الحال أحسن . من سيغامر بالمجيء ؟! الموت في الأرض وفي السماء . وأطل من البوابة . تطلع شرقا وغربا . ما من أحد . جلس عند شجرة جوافة قريبة من شجرة الجثة ، وأخرج علبة السجائر من جيب بنطلونه الرمادي . وجد سيجارة وحيدة فدخنها دون استطعام لمذاقها ، وبعد دقائق رماها ومازال فيها ثلثها ، وعاد إلى شجرة الجثة . لو كان في غير جو الحرب ، ورأى جثة بهذه الصورة لتقطعت روحه استفظاعا وتألما . بهذه البساطة المأساوية الهازلة يختفى الإنسان روحا وجسدا واسما ووهج حياة ؟! إنها الحرب . إنه العدوان الذي أفرخه الإجرام الصهيوني بعد أن قطع قيده في دنيا أمة تشبه هذه الجثة ، وهذه الجثة منها أكرم . سقطت عينه على انتفاخ في أحد جيوب الجيليه السمني الكثيرة الذي يرتديه مروان ، في الجانب الأيسر . تلفت في أكثر من جهة ، وفتح السحاب ، وأنزل يده في عمق الجيب المستطيل ، فاستقرت على رزمتين ! نقود ! ودون إرادة التفت إلى الأسفلت الذي يقطع المنطقة شرقا وغربا ، وسحب الرزمتين. واحدة دولارات والأخرى دينارات أردنية ، وكل رزمة محزومة بخيط مطاط . مبلغ كبير جدا . يحس بتغير في وجهه . لو قريبة منه مرآة لنظر إليه . وقلب الجثة على الجانب الأيسر . انتفاخ في أحد جيوب الجانب الأيمن . شد السحاب ودفع يده فيه . رزمة ثالثة أصغر شيئا من الرزمتين الأخريين . دولارات فحسب . وتخاطفته الوساوس والنوازع بين محرض ومحذر ، وتحركت أمام عينيه وجوه دائنيه الثلاثة غامضة مضطربة ، وألح عليه وجه أبي منصور الجاف عابسا . سلف أن أغلظ له اللوم مرتين يطالبه بالستمائة دينار التي استدانها منه ، وتخلف في تسديدها. واحتشدت في نفسه رغبات ، والتمعت مشروعات ، والتفت في أكثر من جهة ، واستعاذ بالله من سطوة الشيطان . كلم نفسه : " هذا لا يكون مني . الله الذي خلقنا لم يجعل رزقنا من الحرام . لن أطعم أولادي حراما . الله يسد عني . " ، وأعاد الرزم في مكانها ، ورمق ساعته . العاشرة والربع . سيمتد انتظاره إلى ما لا يعلم ، فليلجأ إلى هاتفه ! هاتف صديقه عبد المجيد اللائذ مثله بمدرسة الوكالة الابتدائية .
***
سأل إبراهيم الذي كان يستمع إلى خالد : وماذا حدث ؟!
فأجاب : كل خير . بعد ربع ساعة كان عندي تكتك فيه ثلاثة شبان . أحدهم قريب مروان ، ابن خاله . وضعوا كل شيء في التكتك الأسود ، وركبت معهم . نفرت نفسي من التسلل إلى بيتي . كان في انتظارنا في الشارع ، خارج بوابة المدرسة ، ناس كثيرون يتطلعون إلى الجهة التي قدمنا منها . أخذ شاب قصير سمين يحذرهم : " يا خلق الله لا تتجمعوا هكذا ! صاروخ واحد يقتل عشرات " ، علا التكبير عند وصولنا .
سأل إبراهيم : والدولارات والدينارات ؟!
_ سآتيك بحديثها . دفناه في مقبرة دير البلح الشمالية بملابسه ، وقبل الدفن ، في المدرسة ، أخبرت أخاه أسامه بالرزم في حضور بعض الأصحاب والجيران ، وسمعت أنه أعادها إلى زوجته وأولاده . المهم برئت ذمتي منها .
قال الجملة الأخيرة كأنه يكلم نفسه .
وسوم: العدد 710