الشاهدة
كل الشكر للأديبة شمسه العنزي ولواحة الأدب في الكويت وصلتني البارحة نسخة من كتاب الفائزون وفيه قصتي / الشاهدة / التي فازت بالمركز الأول.. يسعدني ان تكون قصصكم أصدقائي بين يدي .
قصة: الشاهدة
رغمَ أنّ سَمّاعةَ الهاتفِ استقرّتْ في مكانها , إلاّ أنّ صدى صوتِها مازالَ يَعبرُ أفقَ مَسمَعي .. أصابني بشيءٍ من الخَدرِ الّلذيذِ , فبتُّ غيرَ مُصدّق لما سمعتْ .. على عجلٍ راحتْ أبوابُ الذّاكرةِ مشرعةً تنفتحُ أمامي على ماضٍ جميلٍ .. بدأتُ أستعيدُ شريطَهُ الورديّ .. وقد أحسستُ أنّ كلّ ما حولي يتراقصُ على وقعِ نبرات ِ صوتِها ..
نعم إنّهُ ماضٍ جميلٍ عِشتُ أجملَ لحظاتهِ مَعَكِ , حاولتُ أن أوصلَه بحاضري بأيّ وسيلةٍ , فما استطعتْ .. عندها انكفأتُ على ذاتي , وجعلتُه أيقونةً علّقتها على بابِ قلبي ..
مرّتْ لحظةٌ من السكونْ , لم أسمعْ فيها سوى خفقاتِ قلبي تزقزقُ كعصفورٍ طَرِبٍ ذكرتني بعصافير الحديقة , حيثُ كنّا نلتقي, تطيرُ و تغرّد حوَلنا في مَهرجان الحبّ والفرحِ
قالتْ : أراكَ في الحديقةِ .. لا تتأخرْ اشتقتُ إليكَ كثيراً ..
اليومَ وصلتُ ..
الحديقةُ التي شهدتْ تفتّحَ براعمِ قَلبينا ..
وتحتَ شجرةِ الكينا .. التي حفرْنا اسمينا على جذعها, وكانتْ الشاهدَ الأولَ على رجفاتِ القلبِ البكر لكلينا ..
وشاهداً على كلماتِ الحبِّ والأغنياتِ التي ترنّمنا بها معاً ..
والوردة الحمراء التي كانت تتوسّط المقعدَ بيننا ..
آهٍ كمْ أحبّ الجوريَّ لأجلكِ يا حبيبتي ..
هرعتُ باتجاهِ الحديقةِ .. كانت ْ قدماي تطويانِ الدربَ كطيّ شريطِ الذكرياتِ الذيْ فردْتُه قبلَ قليلٍ
منذُ شهور لم أرها, لم أسمعْ صوتَها .. لا أعرفُ شيئاً عنها سِوى أنّها غادرتْ المدينةَ مع أسرتِها , .. وبقيّة النازحين ..
بعد أن أنهكتْ الحربُ المدينةَ , وشردّتْ أهلها و أبعدتهم عن بعضِهم, حتّى أنّ كثيراً من النّاس ضيّعوا أُسرهم , ضلّوا عنها في مخيماتِ النزوحِ داخلَ البلادِ وخارجَها ..
تُرى أ مازالَ ذلكَ البريقُ الجميلُ في عينيها , كما كانتْ في لقاءاتنا قبل أعوام.. ؟
أم أنّ الحربَ .. وسمتَها بالحزنِ كما وسَمتْ نوافذَ البيوتِ في مدينتنا .؟!!
مَنْ قالَ إنّ الُمدنَ لا تحسّ .. لا تشعرُ .. لا تحزن .. ؟!
المدينةُ أم ّضيّعت أبناءَها في لحظةِ شِجار عنيفٍ .. لم تستطعْ أن تُصلحَ بينهم فانكفأتْ على ذاتِها تبكيْ, بينما هم ركبوا طريقَ الغِواية وضلّوا ..
كلُّ شيءِ بادٍ على طرقاتِها وواجهاتِ أبنيتها التي ثقبّها الرّصاص .. الذّعر والترقّبُ في عيونِ سكّانها .. صارَ لغةً جديدةً ..
أُسرعُ قليلاً , وقد عَقدتُ العزمَ .. ألاّ أسمحَ للحربِ أن تأخذَها منّي مرّة أخرى ..
كلماتٌ قليلةٌ مختصرةٌ عليّ أنْ أقولها لها ..
عليّ أنْ أنهي ما بدأتُه منذُ سنواتٍ , لن أتركَها اليومَ حتّى أحددّ معها موعد زواجنا ..
سأبذلُ قُصارى جهدي .. لن أتركَ الزمنَ مرّة أخرى يَعبثُ بنا .. لن أتركَ الحربَ تغتالُ أحلامَنا من جديدٍ....
من بعيدٍ تراءتْ لي شجرةُ الكينا مذعورةً مَلفوحةَ الأغصانِ.
ربّما العَطش , أو لعلَ عاملَ الحديقة نزحَ أيضاً, فأحسّتْ بالوحدةِ أو ربمّا حزنتْ لهجرة عصافيرها ..
لا .. لا .. الأشجار لا تَعطشُ في أرضِها, هي الحربُ فعلتْ فعلتها بها ...
عندما وصلتُ الى مقربةٍ من الحديقة كانت ْهناكَ جَلَبَةٌ وحركةُ غيَر طبيعيّةٍ
وقبلِ أنْ أدخلَ , استوقفتني مجموعةٌ من الرجالِ المذعورينَ .. صرخَ بي أحدُهم عند الباب:
- لا تدخلْ .. , لا تدخل..!!
أحسستُ أنّ أمراً مُريباً يحدثُ ..
هاااي أنت .. إلى أينَ ؟ لااااتدخل !!
كرّرها بصوتهِ المخنوق وأردفَ :
منذُ قليلٍ انفجرَ لغمٌ مزروع ٌفي أرضِ الحديقة , و أشارَ إلى هناكَ حيثُ شجرةُ الكينا ..
يبدو أنّ فتاةً دخلتْ مسرعةً ولم تقرأْ ما كُتبَ هنا ..
ومدّ إصبعهُ المرتجفةَ صوبَ لوحةٍ معدنيةٍ سوداءَ, كتُبَ عليها بخطٍّ رديءٍ مُرتبكٍ .. ( انتبهْ الحديقةُ مزروعةٌ بالألغام
وسوم: العدد 711