حكاية وطن ومواطن (قصة رمزية)
وصمة عار.. على جبين محتار.. لموقف الزعيم الأوحد المحتال.. ابن البلد يتطلع من بعيد وأخرى من قريب لما يخطه الصائد العتيد، وينفذه الصاحب التريب.. التابع الذليل لأجل كرسي ضئيل ومال حرام رخيص.
ابن البلد هذا يتمتم: لماذا!! ثم يصرخ .. ينادي في واد عميق، فيرجع له صدى عتيق.. لا من يسمع .. لا من يجيب، الكل يرى لكنه لا يبصر.. فينا الموسر والمعسر.. المقتر والمسرف.. والقواد مقرف..
المفلح الأنيس ابن البلد سمير كان على أهبة أن يطلب يد لميس..
أما ما حدث أثنى عزيمته.. كي لا يقاس بذراع غيره.. وبالمال أو الجاه هون لا يقيس، بأم عينيه يرى الشباب يخرج دون الشيب، بمجمل إنسانية وسلمية يطلب التغيير .. يريد العدل بديلاً للظلم.. التحرر عوضاً عن الاستعباد.. لا أسياد ولا عبيد.
يأتي الرد سريعاً.. نار تحصد الهشيم، ثعبان لا يبقي حب حصيد.. أفعى تبتلع حمائم السلام وكل بلبل وليد.. تمزق زقزقة العصافير ويصنع حجراً على كل تغريد.
يوماً بعد يوم تتفاقم الأوضاع.. إلى أن صار دوي انفجارات تخترق الأرجاء.. تصم الآذان وتصرع الأسماع.
لا ريب تراكمت الأوجاع.. ومن ثم انفجر ماء العروق أحمر مضرجاً الزنود والنهود، مغطياً المدائن والنجود.
لم يعد يملك ابن البلد طاقة صبر.. فساح عقل سمير لفظاعة ما صار، وهول ما خاله قد يصير.
لذا تذبذب في المسير لما أصابته صعقة النذير.. فكاد قلبه يطير من رجفة القمطرير.
المواطن سمير.. يمتطي دراجته المتآكلة، يبدل بل يدوس "ركاباتها" المتهالكة.. بقدرة ليست لائقة .. لكنه يمشي يسير.. إلى أين؟!!
هو لا يدري، لا يعرف أين تحط به رحلة الراحلة.
يواصل المسير .. وهو في السبيل يشاهد من خلال الضباب المسيل.. صوامع .. بيع .. صلوات.. مساجد عُمرت بذكر الله وعبادته.
وجدها أنقاضاً.. مضت أطلالاً واقرة في سجل الذكريات.
مع خضم تدافع الناس بقدرة العزيز القدير، كان ما كان.. في الغابر من حاضر الزمان.
واصل سمير قيادة الراحلة الهوائية وخلفه بلدات وضيع ممسوحة جزئياً وكلياً.. يلفها دخان.. تغطيها سحابات ضبابية.
فكر وقدر.. قد يصيب بما قدر، أين ستحط به تلك الرحلة؟! قد تأخذه لمخيمات لجوء.. عند ذلك توقف هنيهة.. شهق شهقة.. ثم أطلق زفرة .. يا لرداءة ما ناءت به نفسه من هموم! ترى أين أهله وما حل بهم؟
قد شردتهم مآسي الحياة فانضموا إلى ركب البؤساء.. لئن غادر البلد قد يسلم.. وحده يسلم.. أما الباقي فسوف يُثلم، والأرض وأنقاض الدار.. أو جملة الديار سيحتلها الغاصب الغدار.
لئن أفضى به المسير إلى مخيم.. ربما يجد له مأوى وقد يلتقي بمن ترضى به زوجاً.. بعدما خلف وراءه من كان لها في قلبه موضعاً وعند عائلته موصفاً، قد يولد له طفل لكن في خيمة.. قد يسمع ويستقيم وربما في المتاهات يضيع.. فيتلقفه أديم تراب ويلتحف غيمة.
وهو.. هو وأسرته المنشودة الموعودة قد يستقبل بالترحاب في ديار الجوار.. وربما.. ربما تعبس في وجهه الأيام وتسوء الأحوال.. بنظرات زوراء.. بنبرات شذراء.
- قف يا هذا .. تسمر مكانك هنيهة.. كلم نفسك إنما دون تشاؤم.. كن يا هذا ممتناً بالتفاؤل "تفاؤلوا بالخير تجدوه" (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها). عندئذٍ خالطت قلبه الطمأنينة.. ونزلت بنفسه السكينة.. لوى مقود الدراجة وعاد أدراجه.. في طريق العودة عاودت الانفجارات تصم آذانه، وأزيز الرصاص وطلقاته تكاد تعبر شأنه.. يقفز إلى الأرض، يستلقي برهة يمرغ ذراعيه في ترابه... ظل على ذلك سويعة، ثم قام ليسابق الرياح عبر بساتين العنب والتفاح.. بعنف وإصرار يأبى النزوح والإخراج، دونما إحراج سيبقى صامداً يداً بيد مع الأحرار الأبرار..
صحاح من صحاح.. أصحاب الدرب والحق الصراح.. الأطهار أهل الفلاح ثلة الشبان الملاح.. كتائب النبي المصطفى المختار.
ضاع الهدف في خضم أفراح وأتراح، زاغ البصر حين غطى الأذهان ألف وشاح، هو التقط نفسه من الضياع بالعودة لشريعة السماء، ذات العدل والسماح.. لئن استقر في قلوب القوم الصلاح واجب الرأس الإصلاح.. عندئذٍ يغشى المرؤوس جل الارتياح، لا مزالق لا مهالك لا نباح، فالكل يعيش برخاء وانفتاح.. وسفينة الإيمان تمخر العباب لا تبالي بالرياح.. وحياة الخلق ملحمة صيغت على لحن الكفاح.
أخيراً استقر به المقام وسط الديار.. فألفاها حطاماً مستباحاً .. قد اخترقتها شبيحة الأشباح. على يد المارق السفاح.
ساءل نفسه: أين يقضي ليله؟ كيف ينام؟! فما وجد فراشاً سوى الأنقاض، هكذا سوت بلده الضغائن والأحقاد.
عندما انسابت خيوط الصباح، شاهد أفواجاً تلو أفواج.. سلكت سبيل الترحال أسمال مزجت بدماء، ووجوه غطتها حفنات تراب ورمال..
ما ضرك لو أنك تصالحت مع العباد أيها الوغد الجبان، إذن لظل كل شيء على ما يرام، ولما هلك النسل والزرع والضرع.. وارتقى بنو الإنسان، وما كنا ضعنا في غياهب النسيان، رويدك أيها المأفون لولا أنك ما سمعت لهمزات شياطين الإنس والجان.. بل لو سلكت سبيل الحق بهدى الرحمن.. فغدوت حسن السيرة وعالي الشأن، ولكن هيهات هيهات وقد سبق السيف عزله.. وأطبق اليم على فرعون وجنوده ومعهم هامان، كذلك النمرود وبادت دولة فرس من ساسان.
انقضت الأيام مع مر الزمان والحال هو الحال.. لا تبديل لا تغيير، الأمن والأمان أمر محال.
ظلت راحلته المتآكلة مسنودة إلى كومة ركام هالكة.. كل يوم يرنو إليها بعيون شاخصة، يرقب مآلها ومآل بلدة كانت في الماضي سامقة، فإذا بها كتلة حديد صادئة.. على ثرى أرض نافرة غابرة، لا تجد لها بين البواكي نائحة.
ما زال يحدث نفسه كل يوم وليلة.. على مدى الأحداث توغلت عصابات الإجرام.. كذلك لصوص السرقات والحرام، أفئدة بعض الخلق صارت تساوي الهواء، حتى الماء نادر والطعام بلا طعم، لا فيه غذاء ولا شواء، كل شيء خواء والكلام في ذلك هراء، على الدنيا السلام إذا ما عم البلاء، والمجازر ملاحم.. مذابح لنساء وشيوخ.. وفيهم آباء وأبناء، وآخرون شردهم حقد أسود في كل أرض وتحت كل سماء، وعالم صم آذانه عن السماع.. حجب بصره العمى والغشاء.
أما إخوة العروبة فمتردد بين مُطنش وأبكم.. ومنهم من ناصب الشعوب العداء، الأقارب والأغارب من شرق وغرب تعاقدوا على حربنا، جلهم في ذلك سواء، أولئك الذين لطخ جبينهم عار الصمت والخذلان، فالناس في أوطاننا خيط لهم من الهم والحزن رداء، فما حِيكَ لأمتنا في دجى الخفاء .. غير سطوة جلاد أجاد الكيد في العلن والخفاء.. مدثراً بسوار الماكر الدجال.. ممهوراً بخاتم الثعالبية (العجوز المسعورة الشمطاء).
وقبيل أن تميل شمس الغروب نحو أفق وردي الخباء، رفع المواطن الأبي الشهم راحتيه ووجه محياه نحو الفضاء.. مناجياً ربه من قلب يغمره الصفاء ساعة لم يعد يملك من حطام الدنيا سوى الدعاء:
- رباه أنزل علينا رحمة مزجت بالنماء والعطاء والسخاء.. أصلح يا إلهي قلوب المسلمين، واجعل الإيمان والإخلاص لها شفاء.. من كل علة وداء.. واجعل القرآن الكريم للنفوس دواء.. واحمِ أوطاننا وأهلنا من كيد الأعداء، وكن يارب عوناً للسائلين الراجين لطفك وعفوك في علاك، فعندك الخلاص من كل بلاء.. منك الرضا والجود وبك الرجاء.. ولك منا مجمل الولاء.
وسوم: العدد 746