عن الإضرابات كوسيلة كفاحية: حروب "غرامشي" ومعالجات "فوكو"
إذا ما جمعنا بين نظريتين في علاقات القوة، وفي التغيير الثوري، فربما نصل إلى اتفاق ما على الإجابة عن السؤال: هل الإضرابات تعتبر وسيلة فعالة في مواجهة سلطة الاحتلال؟ أو لنقل: هل هي فعالة في تحقيق نتائج سياسية (بالمعنى الواسع لهذه النتائج)؟ ففي نهاية المطاف فإن الإضرابات وسواها من الممارسات الكفاحية إنما هي وسائل هدفها النهائي هو تغيير ميزان القوى مع هذه السلطة الغاشمة، وبما يتيح اجتراح مكاسب سياسية وطنية محددة سلفا.
الإضراب الأخير الذي شهدته المناطق الفلسطينية المحتلة كان قد أثار الكثير من الجدل، وحاز على الكثير من الاهتمام في الرأي العام. ليس فقط بسبب الإرباكات الملحوظة في ملابسات إعلانه، وكيفية إخراجه، والأهداف المعلنة التي كان من المفترض أن يخدمها. ولعل السؤال المركزي الذي يدور على ألسنة غالبية الناس هو: ما الفائدة من الإضراب؟ فمن زاوية خبرة السنوات القليلة المنصرمة لم تكن الإضرابات العامة أو التجارية وسيلة فعالة في مجابهة سلطة "إسرائيل". وأغلب الظن بأن كثرة الإضرابات القطاعية ذات الأهداف المطلبية المرتبطة بسياسات السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة قد أحدثت نوعا من الإرباك والخلط المفاهيمي والعملي فيما يتعلق بمعنى ودلالات وأهداف الإضراب المرتبط بمسألة الكفاح والتحرر الوطنيين. وهنا علينا أن نفرق بين الأمرين؛ فحديثنا هنا يدور عن المسألة الوطنية بالرغم من أن عمليات التغيير تنطبق على أية سياقات تتضمن السلطة والقوة وتفاعلاتهما مع الحيز الاجتماعي.
ترتبط الوسائل الكفاحية للمجتمعات والشعوب المقهورة بهدف أسمى وهو الخروج من قيود السلطة الحاكمة المتغولة (أيا كان مصدر جبروتها: قوة التسلط الاستعماري، أو قوة الهيمنة الداخلية). يقدم لنا المفكر الثوري المُلهَم "أنطونيو غرامشي" قاعدة متينة يمكن الانطلاق منها للتمميز بين نوعين من الفعل الثوري المفضي إلى الخلاص من السلطة الغاشمة وهما "حرب الحركة/المناورة" التي تقوم على الجبهة المفتوحة للظفر بالسلطة عبر مواجهة شاملة؛ و"حرب المواقع" التي تقوم على تجنيد الفئات الشعبية في تيار ضخم يحقق إرادته الجماعية. وهي (أي حرب المواقع) بحسب غرامشي لا تعني خسائر أقل فالسلطة الغاشمة ستواجهها بالقوة، بل تعني تجنب الهزيمة المحققة لحرب الحركة. إن حرب الحركة في السياق الفلسطيني وفي مواجهة سلطة خارجية غاشمة تمتلك أدوات مركبة للقمع والتحكم لم تشكل تاريخيا ولن تشكل اليوم الخيار الكفاحي الفعال. بينما حرب المواقع هي التي أثبتت جدارتها التاريخية بالاستناد إلى إنشاء سلطة الشعب كبديل وفوق سلطة الاحتلال.
إن الإضرابات العامة هي أحد أهم تعبيرات حرب المواقع باعتبارها عملية تحشيد واسع النطاق تقوده نخب سياسية وطنية مثقفة (المثقفين العضويين حسب تعبير غرامشي). ويستند هذا الفعل إلى كسب غالبية الناس لصالح هذه الوسيلة التكتيكية لفعل جماعي يفضي إلى حالة العصيان المدني-الوطني. أي أن الإضراب هو تكتيك منغرس في جملة كفاحية كبرى لها مفردات عديدة إلى جانب الإضراب. فما العصيان المدني إلا تعبير عن تمرد شامل على سلطة وأوامر وقوانين سلطة الاحتلال الغاشمة. فالقوة والسيطرة هي مسألة علاقاتية إذ لن يبقى المسيطر مسيطرا إذا ما عزم المسيطرُ عليه على التمرد وإعلان سلطته الخاصة متحديا مصادر قوة الطرف الذي يمارس السيطرة. ويمكن تفكيك مصادر قوة سلطة الاحتلال الغاشمة إذا ما نظرنا إلى الأبعاد الثلاث للقوة power كما شخصها الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو" وتناولها كتاب "نيف جوردون" Israel’s Occupation. ثمة ثلاثة مستويات مركبة لهذه القوة وأدواتها: التحكم بسلوك الأفراد وتحقيق "انضباطهم" للأوامر؛ التحكم بالأفراد من خلال وضع قواعد وضوابط للسلوك الجماعي للفئة التي ينتمون لها (الفلسطينيين عموما)؛ وأخيرا وضع قواعد سيادية/قانونية (القانون هنا أداة كولونيالية تمييزية) لإنشاء واقع مراوغ يعطي الانطباع بأن السلطة الغاشمة إنما هي سلطة قانون. لا تحكم دولة الاحتلال الفلسطينيين ببندقية وجيب عسكري، وليس من المتصور إن يستطيع الفلسطينيون قهرها إلا إذا فهموا بعمق وفككوا أدوات التحكم هذه بمستوياتها الثلاث عبر حرب مواقع تنتزع من الاحتلال قدرته على إملاء الأوامر. في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط يصبح للإضراب محتوى ثوري تغييري.
تشير الخبرة التاريخية الجمعية للفلسطينيين إلى أن الإضرابات كانت من الوسائل الفعالة في مجابهة السلطة العسكرية الغاشمة لدولة الاحتلال. ولا نريد أن ندخل في استعراض تاريخي لهذه الخبرة منذ الإضراب التاريخي في أواسط ثلاثينات القرن الماضي، مرورا بأواسط سبعيناته، وحتى الانتفاضة الأولى المجيدة. فغالبية الفلسطينيين لديهم مقدار كاف من المعرفة بهذه الأحداث. وربما تشكل تجربة الانتفاضة الأولى مخزونا هائلا من المعرفة العملية والمفاهيمية لمعنى ومكانة الإضراب العام في سياق كفاحي جماعي. فقد كانت الإضرابات وسيلة تكتيكية لمنظومة متكاملة من الفعل الكفاحي المنظم والتي جسدت (أي هذه المنظومة) تفوق الإرادة الجماعية -إن لم نقل سلطة- للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وباعتبارها نفيا لهذهالسلطة. الإضرابات ترافقت مع أشكال عديدة أخرى من التحدي لهذه السلطة الغاشمة، وبما فتح المجال أمام نشوء وعي وممارسة جماعييين لمعنى تفكيك وتحطيم مصادر القوة التي بموجبها فرضت سلطة الاحتلال سطوتها على الفلسطينيين. إن ما يضفي مزيدا من التعقيد إلى وسائل حرب المواقع هو أن مساحات المواجهة المباشرة مع قوة الاحتلال قد انحسرت بفعل وجود السلطة الفلسطينية في التجمعات الكبرى للفلسطيننين، وحقيقة أن وجود سلطتين متقاطعتين يربك هذه الوسائل في ظل غياب قوة التنظيم الضائعة بين مراكز القياة السياسية-الوطنية المشتتة، الأمر الذي يعني أن الشرط الذاتي للجوء إلى حرب المواقع غير متوفر. خلاصة القول هو أن الإضرابات في ظل الوضع الراهن مثل الإضراب الأخير، ووفق مفهوم حرب المواقع والخبرة التاريخية للفعل الكفاحي الفلسطيني هي تعبير عن العجز في تبني هذه الاستراتيجية الشاملة للمواجهة، وليس علامة من علامات القوة الهادفة إلى نفي الوضع القائم.
وسوم: العدد 757