من أين تأتي الجرأة الإيرانية في التدخل بشؤون الدول العربية؟

قيل إن " أبو الأسود الدؤلي كان واسع الحكمة والعلم وهو من نقط حروف اللغة العربية، وقيل أن لأبي الأسود دار باعها ورحل عنها؛ فسأله سائلٌ: "بعت دارك؟" فأجاب: "بعت جاري ولم أبع داري".

وهذا يعني أن الرجل باع داره بسبب جاره السيئ، ومن يومها صارت مقولة الحكيم الدؤلي مثلاً يردده العرب للتعبير عن تغيير مساكنهم بسبب الجار السيئ.

والدول كما البيوت لها جيران، وهؤلاء الجيران فيهم الأخيار، وفيهم غير ذلك، ولكن المختلف في الموضوع أنك حينما يكون جارك سيئاً يمكن أن تغير منزلك وتبيعه، حتى ولو بأقل من ثمنه، لكن في حالة البلدان الموضوع مقعد جداً، ولا يمكن تغيير الجار السيئ من البلدان، لظروف جغرافية وواقعية معلومة للجميع.

والعراق – مع الأسف- ابتلي كثيراً من الجارة إيران، وقد وصل التدخل الإيراني في الشأن العراقي لمراحل متقدمة لا يمكن معها إنكار هذه الحقيقة من كافة الأطراف الفاعلة في العراق، سواء أكانت تلك الأطراف عراقية، أم أمريكية، وحتى الإيرانية ذاتها.

الحدود بين العراق وإيران طويلة جداً، وتمتد إلى 1458 كلم، وهي تمثل الحدود الشرقية، والشرقية الجنوبية للعراق، وكذلك الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، وهذا يعني أن العراق هو البوابة الإيرانية للدخول إلى الوطن العربي، أو ربما إلى الخليج العربي تحديداً.

التدخل الإيراني العلني في المنطقة - وبحسب ما سبق لها إعلانه- ضَمِن لها السيطرة على أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت صنعاء)، وهذا التدخل الإيراني يبدو أنه ليس بالمجان، وربما جاء الوقت الذي ستسترد فيه طهران ما أنفقته في العراق وسوريا وغيرهما، رغم ما حققته من مكاسب إقليمية ودولية نتيجة التوغل المستمر في ملفات حساسة في تلك البلدان غير المستقرة حتى اليوم.

حالياً هنالك حديث إيراني علني عن سعي إيران لاسترداد ما تم إنفاقه من أموال إيرانية في الساحتين العراقية والسورية، وهذا ما أكده أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، محسن رضائي، نهاية الأسبوع الماضي، والذي صرح أن "بلاده ستستعيد كل دولار أنفقته في سوريا والعراق وفي كل مكان، وإننا نتبع تحقيق مصالحنا إلى جانب الدعم الذي نقدمه لسوريا والعراق، وهو دعم عسكري واستشاري، ويركز على نقل التجارب والخبرات العسكرية، لو أعطينا دولاراً واحداً لأحد، نقبض ثمنه ونثبت أقدامنا بذلك".

وكشف رضائي أن "إيران استخرجت مناجم الفوسفات بمقدار مساعداتها المالية لسوريا، وتحاول الاستثمار في الصناعة والزراعة في سواحل المتوسط لجني المليارات"، لكنه لم يذكر حقيقة الاستثمار الإيراني العلني والسري في العراق منذ العام 2003 وحتى اليوم.

التدخلات الإيرانية العلنية- المدعومة بتغافل دولي مقصود عن التدخل الإيراني في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة، وبالذات في العراق وسوريا- نرى أمامها إصراراً حكومياً إيرانياً على قلب الحقيقة، ومحاولة القول إن هذه التدخلات تتم بصورة شرعية، وهذا ما أكده السفير الإيراني في الأردن مجتبى فردوسي بور، في مقابلة صحفية نهاية العام 2017، والذي قال رداً على اتهامات بعض الدول العربية لبلاده بالتدخل في سوريا والعراق: "حضور إيران في العراق له شرعية، فعندما قدمت إيران القوات لمكافحة الإرهاب في الأراضي العراقية، تم استئذان حكومة العراق المركزية المنتخبة من طرف الشعب العراقي للدخول لمكافحة الإرهاب في العراق".

ويضيف بور: "وذات الأمر حصل في سوريا التي سمح نظامها الشرعي بدخول مستشارين عسكريين لمساندة الجيش السوري، فحضورنا في البلدين له شرعية، وهذا ينفي صحة ما يتم الترويج له بأن إيران احتلت الأراضي العربية أو العواصم العربية أو إنها تتدخل في الشؤون العربية".

وفردوسي يعلم جيداً أن كلامه ليس دقيقاً، وأن ما يجري في العراق وسوريا هو تدخل مرفوض، ولو كان –أحياناً- بعباءة شرعية ممزقة لأن العالم بأكمله يعلم أن الأنظمة في بغداد ودمشق مسيرة ضمن البوصلة الإيرانية في غالبية الجوانب السياسية والاقتصادية، وعليه فليس من المنطقي قبول هذه التصريحات المخالفة للحقيقة المعلومة لكل المتابعين للشأنين العراقي والسوري.

هذا التدخل الإيراني ليس تدخلاً عبثياً، وإنما هو تدخل مدروس واستراتيجي، ومعلوم من القوى الإقليمية والدولية، وسبق لمجلة فورين بوليسي الأمريكية أن أوضحت في تموز/ يوليو 2015 أن "إيران تتصرف كقوة إقليمية إمبريالية بأيدلوجينا شيعية، موجودة في الحمض النووي الوطني والتوقعات الثقافية الإيرانية، وأن الإستراتيجية الجيوسياسية الإيرانية، المرتكزة على العقيدة الشيعية كحركة دينية، مأخوذة مباشرة من كتيب خطة اللعب لإمبراطوريات الفرس الثلاث الأوليات، التي امتدت لأكثر من ألف سنة، ولا بد أن ندرك تمام الإدراك الطموحات الإمبريالية الإيرانية، وكيف أنها سوف تنطلق بحرية جراء رفع العقوبات الاقتصادية، فمن شأن الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية، حسب بعض التقديرات أن يسبب زيادة الإيرادات إلى الخزينة الإيرانية في حدود 100 مليار دولار سنويًا، أو أكثر، من خلال دخوله حيز العمل، خاصة أن ثلث الاقتصاد معطل نظراً للعقوبات الاقتصادية، وبطبيعة الحال؛ سوف يتم استخدام بعض من هذا لتحسين الاقتصاد في إيران، ولكن سيكون على الأقل هناك توفير لتمويل إضافي كبير للأنشطة الخارجية في جميع أنحاء المنطقة والعالم".

الجَرَاءَة الإيرانية في تصريحات رضائي تؤكد بما لا يقبل الشك أن إيران – ورغم ما نهبته من مليارات من بلاد النهرين- مطمئنة من قبول بغداد بهذه التصريحات، وكذلك بأنها – أي إيران- يمكنها فعلاً أن تسترد كل دولار أنفقته في العراق، ولو كانت قد حققت به مصالح إستراتيجية كبرى للجمهورية الإيرانية، وربما ستنتزع فوقه أضعاف مضاعفة كنوع من السمسرة السياسية الدولية، أو كجزء من "رد المعروف الإيراني" على حكومات بغداد المتعاقبة عبر دعمها للبقاء في السلطة عسكرياً وسياسياً!

المواطنون العراقيون – في الغالب- رافضون للتدخلات الإيرانية، وحكومة طهران متوهمة كثيراً لو أنها تتوقع أن العراقيين يقفون معها تماماً مثل غالبية السياسيين الذين يدورون في فلكها، بدليل النقمة الشعبية عليها في عموم الشارع، وأن هنالك قناعة شعبية شبه  تامة أن إيران وراء غالبية المصائب التي وقعت في العراق منذ عدة سنوات، ومنها التفجيرات الخطيرة التي أريد منها إشعال فتن طائفية بين العراقيين.

الجَسَارة الإيرانية العلنية للتدخل في الشؤون العربية لن تتوقف طالما تتابع إيران هذا التشتت العربي، وحالة اللامبالاة من غالبية دول المجتمع الدولي تجاه ما يجري في العراق وسوريا وغيرهما، وبالتالي هذه الجَرَاءَة الإيرانية لم تأت من فراغ وإنما جاءت كذلك كنتيجة طبيعية لغياب الدور العربي الواضح في الوقوف مع تطلعات الشعوب العربية المظلومة في العراق وسوريا، والقائمة على ضرورة بناء دولة المواطنة بعيداً عن أنظمة الإرهاب الرسمي.

الجَرَاءَة الإيرانية ستنتهي في بلاد الرافدين مع وجود حكومة عراقية تتعامل مع الإيرانيين بندية، لكن السؤال الصعب جداً: متى سنجد هذه الحكومة؟

وسوم: العدد 762